إعادة تدوير مواد البناء.. صناعة جديدة تنشط في غزة
الطائرات الإسرائيلية التي تدمر المباني والعمارات أثناء التوترات الشديدة والاعتداءات الكبيرة فتحت مجالا لم يكن موجوداً لسوق البناء
يترك الحصار المفروض منذ إحدى عشر سنة آثاره الغليظة على قطاع غزة، وكاد يعطل مناحي كثيرة في الحياة، على رأسها قطاع العمارة والبناء، بفرض شروط تعجيزية لدخول موادها من خشب وحديد وأسمنت وحصمة وغيرها من مواد، إلا أن الطائرات الإسرائيلية التي تدمر المباني والعمارات أثناء التوترات الشديدة والاعتداءات الكبيرة فتحت مجالاً لم يكن موجوداً لسوق البناء.
واضطر الفلسطيني إلى إعادة استخدام مواد البناء بعد تدمير المساكن والعمائر، ليخلق سوقاً جديدة، ويواصل قطاع الإنشاءات نشاطه بالقدر الذي يتوفر له.
الحاجة أم الاختراع
المهندس أحمد عبدالله، من كبار مقاولي البناء في قطاع غزة، رفضت إسرائيل منحه تصريح دخول إلى أراضي الـ1948، لممارسة عمله المعتاد قبل المنع لأسباب عامة لا تخصه، ولكنه لم يستسلم لهذا المنع ولم يعطل أعماله، فبدأ بالبحث عن البديل في مجاله.
ويقول لـ"العين الإخبارية": "وجدت في القصف الإسرائيلي للمساكن، والأماكن العامة، وما تتركه من دمار وخراب، مجالاً لإعادة استخدام مواد البناء ثانية، فشكلت مجموعة عمل، وعرضت الأمر على الجهات المختصة، لأخذ الرخص المطلوبة، وجهزت طاقم العمل منذ العدوان الأول على قطاع غزة في عام 2008، وبدأت باستخراج الحديد والحصمة من الدمار، وتعديله وفق الأصول، وما صلح منه يعاد استخدامه في عمليات بناء جديدة، سواء للمبنى ذاته المدمر أو سواه، ولكن الصعوبات كانت في عمليات نقل المخلفات، إلى أن تغلبنا على ذلك بمشاركة جهات مختصة لنقلها إلى مناطق بعيدة عن المجمعات السكنية، وتدويرها وإرجاع الصالح منها إلى السوق".
إعادة التدوير.. السهل الممتنع
المهندس خالد البيروتي من سكان جنوب قطاع غزة، يقول لـ"العين الإخبارية": "لم تكن عملية تدوير مواد البناء من المساكن المدمرة بالأمر السهل في بداية الأمر، وبقيت في محور التجريب، حتى ضاق الحصار وخنق قطاع البناء بالكلية، وكان هذا قبل حرب 2014، حيث شلت تماماً عمليات البناء، وفقدت مواده في الأسواق، وفتحت سوق سوداء لا يستطيع المواطن العادي تحمّل أسعارها، فكان لا بد من التفكير بالبدائل، خصوصا الحديد والحصمة، وباقي المواد يمكن توفيرها عن طريق الأنفاق كالأسمنت في أوقات تشغيلها وقبل إغلاقها.
ويضيف: "فعلاً بدأت عمليات تدوير مواد البناء بعد حرب 2014 التي استمرت 52 يوماً، ودمرت خلالها أحياء كاملة، وعمارات عالية، أصبحت عبئا على المناطق المدمرة، فإزالتها فرض واقع، وهذا ما نشط فكرة إعادة تدوير مواد البناء، وتم إنشاء كسارات لمخلفات البناء المدمرة، واستخراج الحمصة، كما تم تعديل قضبان الحديد في أماكن التدمير، وفتح مجال المقاولات لهذة السوق الجديدة، ولكن يبقى استخراج الحديد والحصمة من المنشآت المدمرة ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى كثير من تذليل العقبات خصوصا الرخص التي يجب الحصول عليها من البلديات، ومن ثم إخضاع هذه المواد خاصة الحديد إلى عمليات تحليل مخبري، لقياس مدى صلاحيتها لإعادة استخدامها، والقصد في إعادة تدوير مواد البناء هو التغلب على الأزمة الخانقة في قطاع البناء التي تسبب بها الحصار الطويل على قطاع غزة".
وفي حين يؤكد نقيب مقاولي البناء في قطاع غزة أسامة كحيل أن عدد شركات المقاولات في قطاع غزة بلغ 350 شركة، يعمل منها فقط 100 شركة بسبب الحصار المفروض منذ عام 2007، وهذا يعني أن 70 ألف عامل عاطلون عن العمل، مقابل عمل 30 ألف منهم وبشكل غير منتظم.
بينما يرى مدير العلاقات العامة في الغرفة التجارية بقطاع غزة الدكتور ماهر الطباع أن عدم توفر مواد البناء تسبب بشلل كامل في هذا المجال، وتسبب في ارتفاع نسبة البطالة بين العمال إلى أكثر من 40%، وهذا شكل ضغطا ثقيلا على الجهات التي تقدم مساعدات إلى الأسر الفقيرة وشديدة الفقر، بعد أن تجاوزت نسبة الفقر أكثر من 65% حتى نهاية عام 2018، وهذا يعني ربع مليون عاطل عن العمل في قطاع غزة من تعداد سكاني تجاوز مليونين، والعاطلون أرباب الأسر هم المعيلون لأسرهم، والحديث عن ربع مليون أسرة لا يصلها دخل منتظم، أو تعيش على مساعدات الإغاثة الدولية والمحلية.
الحاج فوزي عبدالحميد وهو صاحب مصنع طوب في جنوب قطاع غزة، يقول لـ"العين الإخبارية": "نضطر إلى التعامل مع الحديد والحصمة المعاد تدويرها من المنشآت المدمرة، وأنا أشتري منها بحكم المضطر، رغم أن أسعارها غير بعيدة كثيراً عن أسعار المستوردة أو المدخلة من قبل إسرائيل، ولكننا نتعامل مع المستخدمة بحكم الحاجة، وحسب التراخيص الممنوحة لها من قبل الجهات المختصة، وهذا القطاع الجديد ينتعش في أوقات الاعتداءات الإسرائيلية على المباني والمساكن، وسرعان ما يغيب بعد فترة قصيرة ويغلق أبوابه، لأنه مصدر غير دائم لقطاع البناء، لأن عمليات البناء مرتبطة به بشكل طردي مع موادها، ولا يغني عن دخول مواد البناء إلى قطاع غزة أي مصدر آخر مهما كان".
ويرى محمد عبدالمجيد وهو صاحب ورشة بناء في منطقة وسط قطاع غزة في حديث لـ"العين الإخبارية": "أن المواد المعاد تدويرها من المنشآت المدمرة تبقى مقلقة، ولا يمكن الاعتماد عليها في البناء الكامل، فالحديد مثلاً يفقد 25% من خصائصه بعد استخدامه، وهذا يعني أن العمارات الكبيرة لا يمكن استخدام مواد مستخدمة مسبقاً فيها، وهذه المواد يمكن استخدامها في مسكن بطابق واحد أو اثنين على أكثر تقدير، ولا ينصح في استخدامها في المنشآت السكنية متعددة الطوابق، وسبق أن تضررت بعض المباني في قطاع غزة بسبب هذه المواد المستخدمة مسبقاً".
ويضيف: "لذا لا بد من تشديد الرقابة عليها، وإن تعطلت مصالحنا وتوقف البناء، فهذا أفضل من سقوط ضحايا نتيجة تدمير مفاجئ لمساكنهم، ويؤكد محمد أن قطاع الإنشاءات توقف لفترات، وارتفعت أسعار الشقق السكنية، وتعرض قطاع الإيجارات لغلاء فاحش، وتأذى الناس من هذه الحالة، ولكن في النهاية فتحت المعابر أمام مواد البناء بنسبة ضئيلة، ورغم جوع السوق لم نضطر إلى استخدام المواد المعاد تدويرها بشكل يعرض حياة الناس للخطر".