الإدارة الأمريكية لن تعمل بمفردها فيما سيجري مع تأكيدات دخول أوروبا المعنية بإدارة الملف الإيراني في المعطيات الجديدة.
تدخل العلاقات الأمريكية الإيرانية مرحلة جديدة في سيناريو جديد، تبدو فيه الخيارات المتاحة من قبل الجانبين محدودة، وليست متسعة أو شاملة كما يتصور البعض في قدرة طرف في مواجهة الطرف الآخر على المراوغة، أو توظيف الأوراق المتاحة له للتحرك، خاصة أن الخيارات الإيرانية باتت في دائرة محددة، ولا يوجد ما يشير إلى إمكانية قيام الجانب الإيراني بالتصعيد، أو تبني خيارات استباقية.
أولا: لأول مرة تجد إيران نفسها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وليس من خلال وكلاء أو شركاء فرعيين، وهو ما يشير إلى أن إيران عليها أن تقرر إما الاستمرار والوصول لحافة الهاوية، وإما تبني خيارات أخرى (خيار التهدئة الحذرة) ليس من بينها التصعيد أو اطلاق التصريحات لجس النبض، مثلما جرى في التهديد بغلق مضيق هرمز تحديدا، ولعل الرد الأمريكي السريع حسم الأمر، وهو ما يؤكد أن إيران ستراجع توجهاتها، خاصة مع إدراكها أن استمرار الاتفاق النووي والالتزام الأوروبي المطروح ببنوده في مقابل استمرار الجانب الإيراني ليس مضمونا في ظل التهديد الأمريكي المباشر للشركات الأوروبية بفرض عقوبات في حال استمرار العمل في إيران، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة جادة في موقفها التصاعدي تجاه إيران، ولن تتراجع عن نهجها بعد الانسحاب الرسمي من الاتفاق النووي، وتركه للأوروبيين رغم علم الإدارة الأمريكية جيدا أن الدول الأوروبية لن تستطيع مجاراة الولايات المتحدة، وأن الإدارة الأمريكية ستعمل على إفشال الاتفاق من خلال مزيد من الإجراءات التي تشكك الأوروبيون في قدرة الرئيس ترامب على اتخاذها، أو تبنيها في ظل رهانات فاشلة على أن الكونجرس وبعض لجان مجلس الشيوخ ستعرقل تنفيذ بعض السياسات التي ستتخذ، وهو ما لم يحدث وانفرد الرئيس ترامب ومستشاره الأمني جون بولتون بتقرير الموقف الراهن تجاه إيران.
مرحلة جديدة للعلاقات الأمريكية الإيرانية بدأت، وتنذر بالكثير من السيناريوهات والمسارات المتوقعة، خاصة أن الداخل الإيراني غير مستقر والنظام في حالة من الاضطراب وافتقاد الرؤية المستقبلية، وخياراته باتت محدودة، وهو ما سينعكس على توجهاته الراهنة والمحتملة في التعامل مع الولايات المتحدةثانيا: إن المسألة لم تعد استمرار أو تراجع الشركات الأوروبية في العمل في إيران، ولكن الإشكالية الحقيقية ترتبط بالأساس بالقدرة الأمريكية على التحرك وبناء موقف متماسك؛ حيث ليس بمستبعد أن تعمل إيران على تقديم تنازلات حقيقية في الفترة المقبلة، والتي لن تتوقف عند القبول ببعض الشروط الأمريكية التي سبق أن طرحت حتى قبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، وهو ما لم تدرك تبعاته إيران جيدا، وتوهمت أن الإدارة الأمريكية ستتراجع اعتمادا على رفض بعض الأطراف الأوروبية، ومنها فرنسا وألمانيا وروسيا، وبعد مرور الوقت اتضح أن الموقف الأوروبي يتغير في ظل حسابات وتقديرات جديدة ترتبط بما يجري في مراحل تنفيذ الاتفاق، وبما يجري ميدانيا من مخطط أمريكي يستهدف تطويق الخيارات الإيرانية، وهو ما جرى بالفعل.
ثالثا: مع التصعيد الأمريكي الراهن تشهد الساحة الإيرانية شدا وجذبا وصعودا وهبوطا بين أكثر من توجه لن يحسم بسهولة وسيرتبط بقدرة صانع القرار الإيراني على التعامل معه، ولن يحسمه الرئيس حسن روحاني فقط في مثل هذه الظروف والمعطيات التي تشهدها إيران، خاصة تجاه التعامل مع التطورات الراهنة تجاه الاتحاد الأوروبي من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، وتتعلق بالقبول من حيث المبدأ بالتفاوض مع الإدارة الأمريكية، وعدم الاستمرار في إدارة الأزمة من منطق تنافسي، وتصاعدي وعلى مستوى الندية في المواجهة، وهو ما تريده الإدارة الأمريكية أيضا رغم كل ما يجري، باعتبار أن تكلفة المواجهة المتوقعة نظريا، واستمرار المشهد الحالي سيخسر الجانبان على الأقل في إطار الحسابات الاقتصادية الواضحة، ومن ثم فإن إيران قد تقدم على خطوة التفاوض المباشر أو عبر وسيط، وهو ما يتمثل فعليا في الوسيط المحتمل وهو سلطنة عمان أو سويسرا، وربما روسيا حال نجاح اللقاء الأمريكي الروسي المقبل في قمة هلسنكي (16 يوليو الجاري)، والتي ستقرر مستقبل قضايا إقليمية عديدة، سواء بالنسبة للملف الروسي والكوري الشمالي وسيناريوهات الحرب التجارية الأمريكية الأوروبية وكذلك مستقبل الاتفاق النووي، ومن ثم فإن الذهاب إلى التفاوض بين إيران والولايات المتحدة وارد.
رابعا: قياسا على ما يجري في الملف الراهن بين الإدارة الأمريكية وكوريا الشمالية فإن إيران ليست بمنأى حقيقي عما يجري، خاصة أن إيران تقدر المشهد التفاوضي جيدا لكنها قد تتجه إلى الخيارات البديلة للضغط على الإدارة الأمريكية بالفعل مع القبول بمبدأ التفاوض، ولكن وفق النهج الإيراني المعلوم الذي يتميز بالتعدد والتشعب وتعقيد عناصر التفاوض، وإطالة أمدها مع العمل في مساحات عديدة وشاملة والارتكان للدعم الخارجي الأوروبي من جانب والروسي من جانب آخر، وهو ما قد يلغي الاتفاق الأصلي، ويقر باتفاق جديد يراعي فيه المتطلبات الأمريكية والإيرانية معاً على طريقة الجميع رابح-الجميع خاسر، وهو ما تدرك تبعاته جيدا إيران، وفي تقييماتها الأولية أن التفاوض بديل حقيقي وواقعي؛ لأن المواجهة مع الإدارة الأمريكية لن تنجح، بل ستعمد الإدارة على محاصرة إيران، ولن تجعلها في موقف فاعل أو مبادر، ومن ثم لن تستطيع فعليا استئناف التخصيب، ومعاودة العمل في منشآتها النووية، خاصة أن القيود المفروضة على إيران بمقتضى الاتفاق النووي ما تزال قائمة، وهو ما ستتذرع به الدول الأوروبية في مواجهة الموقف الأمريكي الذي ما زال متمسكا بالاستمرار في مواجهة إيران، ولن يقدم أية تنازلات لأي طرف أوروبي أو روسي، وإن كان من المحتمل أن يقدم على هذا في حال حدوث اتفاق أشمل يضم قضايا إقليمية ودولية، وبالتوافق المباشر والاستراتيجي وليس التكتيكي مع روسيا.
خامسا: ستقبل الإدارة الأمريكية إذن التفاوض مع إيران وفق جدول أعمال مختلف عما كان مطروحا عقب إتمام الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، ومن ثم فإنها ستربط المسار الاستراتيجي ومراجعة الاتفاق بكل بنوده بالمسار السياسي، خاصة بالنسبة لتدخلها في القضايا الإقليمية، وهو ما سيقر فعليا بتوجه أمريكي بممارسة أكبر ضغط سياسي على إيران لرفع يدها عن القضايا العربية والإقليمية، ووفقا لنظرية النفقة والتكلفة، والعائد وعدم ترك إيران للعمل في مساحات جديدة للمناورة، وما سينطبق على سوريا سينطبق على اليمن والعراق ولبنان، ومن ثم فإن أي تفاوض أمريكي إيراني سيشمل بالتأكيد اتفاقا سياسيا مكلفا للسياسة الإيرانية، وهو ما لن يكون مقبولا من الداخل الإيراني بصورة كاملة، بل على العكس سيكون محل تجاذب سياسي حقيقي، ولن يفهم في سياق توزيع الأدوار السياسية بين أكثر من تيار في إيران، وهي تباينات تفهم في سياقها دون أن يكون لها القرار في الحسم والجزم مع الرهان على السلطة المركزية الحاكمة والمعلومة، والتي لها صلاحيات اتخاذ القرار وتفعيله وليس دراسته قبولا أو رفضا، وهو ما يؤكد أن إيران لن تكون في موقع المفاوض بالمعنى العام، بل ستكون في وضع تفاوضي صعب، خاصة أن الدول الأوروبية ستتلاقى في هذا الإطار مع الموقف الأمريكي في الوقوف في مواجهة السياسة الإيرانية وتدخلاتها السافرة في الإقليم، والتي ستتطلب مراجعة دولية، خاصة مع ارتباطها بالخيار الإيديولوجي الإيراني ومسعاها المستمر للتدخل والتواجد في الملفات العربية لتكون عند الضرورة ورقة قابلة للتوظيف مع أي مواجهة مرتقبة، وهو ما جرى في التهديدات المستمرة لإسرائيل، والتلويح الإيراني بإمكانية تحريك الأذرع الفرعية للعمل عند الضرورة، وهو ما ينطبق على حزب الله وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين والتيار الحوثي، ومن ثم فإن الولايات المتحدة -ولاعتبارات تتعلق بتوجهاتها السياسية الراهنة ومصالحها المباشرة في الإقليم- ستعمل على مراجعة وتطويق الوجود الإيراني في حال أي تفاوض مقترح.
سادسا: ستدخل إسرائيل على خط ما يجري أمريكيا وإيرانيا بالتأكيد، إذ ستسعى بالفعل إلى حسم التحديات والمخاطر من الجبهة الإيرانية، ليس من خلال وقف أو تجميد البرنامج النووي وإنما لوضع إيران في دائرة محددة من المتابعة الجيدة، سواء من خلال الاتفاق النووي بعد إضافة بنود أو ملحق أو بروتوكول جديد، مع العمل مع الإدارة الأمريكية بصورة مباشرة، خاصة أن الولايات المتحدة ضغطت على إسرائيل بالابتعاد عن المشهد بعض الوقت رغم التهديدات الإيرانية الإسرائيلية المتبادلة، والتي امتدت إلى الجبهة السورية وتحديدا في الجنوب، ومن المتوقع أن تتجدد المخاوف الإسرائيلية مرة أخرى، وهو ما دفع إسرائيل للضغط على روسيا للتعامل مع التحديات والمخاطر التي تواجهها بعد عودة القوات السورية للعمل والسيطرة على الجنوب.
والرسالة هنا أن إسرائيل ستكون حاضرة بقوة في أية تحركات أمريكية إيرانية، وستكون ضمن أي اتفاق جديد، خاصة أن إسرائيل لن تقبل بعودة استيعاب إيران استراتيجيا في ظل مخاوف اليوم التالي لإبرام أي اتفاق يجري ويقر باستمرار الوضع الحالي، خاصة مع الحضور الإيراني في دول الجوار الإقليمي لإسرائيل، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية لن تعمل بمفردها ولن تكون المقرر الأول والأخير فيما سيجري، خاصة مع التأكيدات المتوقعة بدخول الدول الأوروبية المعنية بإدارة الملف الإيراني في المعطيات الجديدة، وليس فقط التوقف عند تقييد القدرات الصاروخية أو النووية الإيرانية.
مرحلة جديدة للعلاقات الأمريكية الإيرانية بدأت، وتنذر بالكثير من السيناريوهات والمسارات المتوقعة، خاصة أن الداخل الإيراني غير مستقر والنظام في حالة من الاضطراب وافتقاد الرؤية المستقبلية، وخياراته باتت محدودة، وهو ما سينعكس على توجهاته الراهنة والمحتملة في التعامل مع الولايات المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة