المطلوب من تجديد الفكر البحث عن السياسات التي تكفل من ناحية بقاء الدولة العربية في شكل موحد ومستقر
لا توجد قضية الآن في العالم العربي في الأهمية والإلحاح مثل "تجديد الفكر الديني"، التي ترد على لسان الجميع من قادة ومفكرين، القضية تتقاطع عندها الكثير من الموضوعات والأمور التي تخص العلاقة بين الدين والدولة، والمجتمع والدين، وفي وسط هذه التقاطعات توجد قضايا الحرية والوحدة والتنوع والطائفية (ومنها تبرز المحاصصة) وكلها يكمن فيها ما يسبب التوحيد، وما يمكن أن يسبب الفرقة والنزاع وأحيانا الحرب. والقضية مثارة منذ زمن، وسبق لمؤسسة الفكر العربي أن أثارت الموضوع في ندوة في باريس عن الوحدة والتنوع، وفي مؤتمر عن المعرفة في دبي تصدر الموضوع الحديث والمناقشات والحوارات، عهد الموجات العربية التي سميت بالربيع العربي أعادت إثارة الموضوع وسط موجة من الاهتياج والقلق، والشعور الحاد بالقلق على الأمن العربي الذي جرى استباحته بقسوة، نظرا لنقص المناعة والقدرة الأمنية، النتيجة كان تدمير دول، ونزع الطاقة من شعوب، ولكن أصبح "الإصلاح" ملحا أكثر من كل الأوقات السابقة، وشمل السعودية ومصر والإمارات والبحرين والكويت وعمان والأردن والمغرب، وبعد ثورتها الأخيرة دخلت السودان إلى هذه الدائرة، الموجة الأخيرة من الربيع العربي خاصة في لبنان والسودان والعراق رفعت شعار "الدولة الوطنية" كإطار الاستقلال والوحدة والتقدم، ولكن الأمر يدفع ثقافيا وفكريا إلى العودة إلى أصول المسائل، واستطلاع تاريخها، والبحث في الطريق الذي يمكن فيه للدولة العربية أن تستعيد مناعتها وقدرتها على التماسك والوحدة في ظل الحرية والتنوع، المرجح أننا لا نحتاج فقط إلى تجديد الفكر الديني، وإنما إلى تجديد الفكر كله!
والحقيقة أن هناك عشرات الأسباب التي تقف وراء اختفاء الحرية في بلد من البلدان، وهذه الأسباب المتعلقة بالحكام والطغاة والمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية يجري ذكرها على كل لسان. ولكنْ هناك سبب لا يذكر كثيراً وهو أن من يريدون الحرية يصمتون عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين، سواء كانت هذه الحرية متعلقة بالحقوق السياسية أم الاجتماعية، ولكن قبل ذلك وبعده حرية الاعتقاد، وحرية التنوع والاختيار، كما أنهم لا يضعون النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يكفل هذه الحريات. فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنساني هي أن الاعتقاد في دين أو مذهب أو طريقة سياسية -أي أيديولوجية- هو مسألة ذاتية تماماً تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلي. وليس معروفاً أبداً لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون إلى بروتستانت وكاثوليك وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام؟ وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء في جميع الأديان والمذاهب أن الله جعل البشر شعوباً وقبائل متنوعة ومتعددة حتى تتعارف وتتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة من الملائكة أو الشياطين.
المطلوب من تجديد الفكر البحث عن السياسات التي تكفل من ناحية بقاء الدولة العربية في شكل موحد ومستقر، ومن ناحية أخرى أن يكون ذلك من خلال عملية سياسية تكفل لجميع المشاركين في "الوطن" المساهمة في هذه الحالة
وفي البلاد العربية جميعها سقط الجميع في الامتحان عندما اقترب الأمر دوماً من حرية العقيدة، أو عندما اقترب الأمر من حرية الانتماء إلى جماعة عرقية مختلفة حتى ولو اشتركت مع الغالبية في الدين نفسه وحتى في المذهب نفسه، وعندما كان الرئيس العراقي صدام حسين يذبح الأكراد ويدفنهم في الصحراء صمتت الأمة العربية صمتاً رهيباً أو تمتمت بالتعجب والرجاء، وكان وراء المسألة كلها هو التضامن مع نظام فاشي في مواجهة مع الإمبريالية أو خوفاً من انفصال كردي يفتت العراق التي يريدها الجميع موحدةن المدهش في الموضوع أن الصمت العربي في المسألة الكردية كان واحداً من الأسباب التي قادت في النهاية إلى شبه الاستقلال للأكراد، حتى ولو كان الإقليم الكردي لا يزال جزءاً من الفيدرالية العراقية.
وفي مصر، سقط المصريون في أكثر من امتحان، عندما خص الموضوع الجماعة البهائية وتسجيلها في بطاقات الهوية، وعندما اقتربت الحرية من موضوع تغيير العقيدة بين المسيحية والإسلام، وفي كل مرة كانت المصادرة على حرية العقيدة تفسر كما فسرت كل المصادرات من قبل على ضوء الاستعمار، وعما إذا كانت العقيدة عقيدة حقاً على ضوء عقيدة أو دين آخر، وما انطبق على مصر ينطبق على غيرها من الدول العربية، فقد تم اضطهاد جماعات مختلفة من القبائل الأفريقية في جنوب وغرب السودان، وسواء كانت هذه القبائل مسيحية أم مسلمة وسنية أيضاً، وفي دول عربية أخرى كانت الاختلافات بين القبائل هي التي خلقت الصراعات، والأمثلة كثيرة في الصومال واليمن، وكان آخر الامتحانات التي سقط فيها جميع العرب هي تلك التي تعلقت بالأيزيديين في العراق؛ حيث جرت المجزرة لهم من قبل جماعات سنية متعصبة وإرهابية، بينما وقف الجمع العربي متفرجاً في الوقت الذي خرجت فيه الحكايات والقصص عما إذا كانت هذه الجماعة من أتباع الشياطين أم لا.
وعلى أي الأحوال، فإن كل هذا القبح العنصري لم يعد مقبولا من عرب الآن، وما مروا به من تجارب في العصر الحديث، وفي المرحلة الراهنة فإن تجديد الفكر الديني أصبح من أهم الأطروحات الراهنة في السياسة العربية، وما كانت تتم مبادرة "التسامح" التي قامت بها دولة الإمارات العربية المتحدة بلقاء بابا الكنيسة الكاثوليكية مع شيخ الأزهر لولا قوة الدفع في هذا الاتجاه. وقد مرت شعوب قبل العرب على هذا الطريق. فقد حاول الأمريكيون دمج واستيعاب السكان الأصليين ومن بعدهم السود بشكل قسري أحياناً، ومن خلال التجاهل أحياناً أخرى، ولا يزال الألمان يحاولون مع الطائفة التركية المسلمة في البلاد، وسبقتها تجارب سابقة للماليزيين تجاه الأقلية الصينية، وادعى الصرب دوماً أنهم لا يعرفون وجود مشكلة للأقلية حتى قامت الأقلية المسلمة بالاستعانة بقوات حلف الأطلنطي بتدمير يوغوسلافيا كلها للفوز بدولة يتمتعون فيها بالمساواة. وأصبح الموضوع نفسه مطروحاً بإلحاح على العالم العربي، فإما المساواة الكاملة بلا تحفظات واستثناءات على أساس العرق أو الدين أو اللون، وتوزيع السلطة والثروة بالطريقة التي تكفل للجميع حقوقاً مشروعة، وإما حدوث شروخ في الدولة العربية الحديثة قد تقودها إلى التفتت والتقسيم.
هذه القضية الخاصة بالأقليات والاختلافات العرقية والدينية والمذهبية باتت من أهم القضايا التي تحدد مصير العالم العربي كله؛ حيث تصاعدت النزاعات بشأنها حتى باتت المصدر الأكبر للضحايا وعمليات التدمير المادية الجارية لعدد من الدول العربية، وكان ذلك في جزء منه راجع إلى واقع التعددية والتنوع في الدولة العربية، وفي جزء آخر إلى وجود المثال "الوحدوي"، الذي تعبر فيه الدولة عن حالة من الصفاء والتجانس السياسي بغض النظر عن كل التباينات الأخرى. وفي العادة فإن وجهة النظر هذه كانت تقدمها الأغلبية باعتبارها حالة "واقعية" تعبر عن الأحوال الجارية؛ حيث لا يعكرها إلا محاولات التدخل الأجنبي لكي تقسم أمة واحدة، والمؤامرات العالمية لتفتيت حالة الانصهار القومي والوطني. وكان ذلك راجعاً -جزئياً على الأقل- لانتشار فكرة القومية العربية التي بدأت مغالاة تاريخية عن حالة الوحدة العربية التي كانت موجودة قبل الغزو الاستعماري، رغم ما هو معروف من أن العالم العربي والإسلامي كان من الناحية الواقعية مفتتاً بين أمم وممالك وإمارات ومدن وشفاك ومقاطعات، كما كان راجعاً جزئياً أيضاً الى اعتقاد مبالغ فيه في حالة الدولة القومية القائمة على عملية انصهار تاريخية، بينما الواقع أن الأغلبية الساحقة من دول العالم هي دول مركبة تقوم على تركيبات مختلفة من أعراق وأديان وكتل اجتماعية.
والغرض الأساسي من هذا المقال هو لفت الأنظار للتعامل مع قضية الوحدة والتنوع في العالم العربي، والتعامل مع الدروس المستفادة من التجربة العالمية في هذا الصدد؛ حيث تعاملت -ولا تزال تتعامل- دول العالم مع هذه القضية بحلول متنوعة، بعضها يمكنه أن يكون مفيداً في الحالة العربية. بمعنى آخر فإن المطلوب من تجديد الفكر البحث عن السياسات التي تكفل من ناحية بقاء الدولة العربية في شكل موحد ومستقر، ومن ناحية أخرى أن يكون ذلك من خلال عملية سياسية تكفل لجميع المشاركين في "الوطن" المساهمة في هذه الحالة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة