"كوفيد-١٩" يضيف تعقيدات جديدة للموقف، فربما يدفع الدول للتعاون، ومن ثم تعود مسيرة السعي لمنع انتشار الأسلحة النووية
عنوان المقال مستعار من دراسة نشرها "إرنست مونيز" و"سام نن" في دورية "الشؤون الخارجية" الأمريكية بتاريخ ٦ أغسطس ٢٠١٩، أي قبل أقل من عام، وفيها كان يرى تهديدا قادما إلى العلاقات الدولية من القوى العظمى الثلاث - الولايات المتحدة والصين وروسيا- وما يقومون به من تطوير أسلحتهم النووية.
لم يكن "كوفيد- ١٩" شائعا في ذلك الوقت، ولا بدأت أعداد الضحايا للفيروس تذيع بما ذاعت به بعد ذلك، ولا بات حال المدن الأوروبية والأمريكية والصينية وغيرها من مدن وعواصم العالم الكبرى كما نشاهده الآن في الصين وإيطاليا وسياتل وطهران ولندن وغيرها، حيث باتت جميعها مدنا للأشباح تذكر بأفلام الكوارث التي يضيع فيها كل شيء ولا يبقى لدى البشر إلا الدعاء لعل العلي القدير يزيح الغمة ويرفع الكارثة.
المقال المذكور يعيد التذكير بعودة التهديد النووي مرة أخرى لكي يضغط على علاقات الدول الكبرى، عادت المنافسة بين القوى العظمى من جديد، بحيث باتت روسيا تريد تغيير الوضع الراهن بعد انتهاء الحرب الباردة في أوروبا التي تراه كان مذلا للدولة السوفيتية التي ورثتها موسكو.
عادت المنافسة بين القوى العظمى من جديد بحيث باتت روسيا تريد تغيير الوضع الراهن بعد انتهاء الحرب الباردة في أوروبا التي تراه كان مذلا للدولة السوفيتية التي ورثتها موسكو. كما تسعى الصين الصاعدة إلى الصعود، أولا عبر آسيا وبعدها في النهاية.
كما تسعى الصين الصاعدة إلى الصعود، أولا عبر آسيا وبعدها في النهاية. لتحقيق ذلك، طورت كل دولة قوات عسكرية مناسبة بشكل مثالي لمحاربة وهزيمة الولايات المتحدة في حرب مستقبلية. وهكذا فإن القدرات النووية المتنقلة الحديثة هي جزء رئيسي من استراتيجيات الدولتين، بحيث تسمح لهما بالضغط على حلفاء الولايات المتحدة أو مهاجمتهم ومنع أي جهود من جانب الولايات المتحدة للرد.
الأمر يحتاج عودة إلى التاريخ مرة أخرى، فخلال الحرب الباردة (١٩٤٩ - ١٩٩٠)، شكلت الأسلحة النووية محور استراتيجية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. في البداية، عندما تمتعت الولايات المتحدة بتفوق نووي كبير على الاتحاد السوفيتي، اعتمدت على تهديد هجوم نووي فوري وحاسم لردع العدوان في أوروبا. وبحلول أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت القوات الاستراتيجية للولايات المتحدة تتفوق على الاتحاد السوفيتي.
كانت دفاعات الناتو في أوروبا الغربية مليئة بالأسلحة النووية، في حين لعبت القوات التقليدية دورا كبيرا. ومع تضخم الترسانة النووية السوفيتية وتلاشي ميزة الولايات المتحدة، قررت واشنطن أن هذه الاستراتيجية لم تعد كافية للدفاع عن أوروبا الغربية بمصداقية. ونتيجة لذلك، أعادت تنشيط قواتها التقليدية واستنبطت استراتيجيات للاستخدام النووي المحدود المصممة لتفادي الغزو السوفيتي وإقناع موسكو بإنهاء أي حرب أقل من "يوم القيامة" أو "نهاية العالم" قائما على الأسلحة النووية.
وبالتالي، على الرغم من أن واشنطن واصلت الاستثمار في القوات النووية الاستراتيجية، فقد طورت أسلحة وقدرات نووية تكتيكية تهدف إلى موازنة القوى التقليدية الأكبر لحلف وارسو. لحسن الحظ، لم يكن من الضروري استخدام هذه الاستراتيجيات مطلقا، ربما لأنها كانت ذات مصداقية كافية لإقناع الاتحاد السوفيتي بعدم المخاطرة بهجوم كبير، وكان هذا أبلغ دليل على قيمة الردع.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حولت الولايات المتحدة تركيزها إلى الدول "المارقة" التي شكلت وقتها التهديد الرئيسي، وإن كان أكثر تواضعا، لمصالحها. أثبتت القوات التقليدية الأمريكية قدرتها على هزيمة هؤلاء الأعداء بسرعة، سواء جيش صدام حسين في العراق في الفترة 1990-1991، أو القوات الصربية في 1998-1999، أو حكومة طالبان في أفغانستان في عام 2001.
كانت هذه هي فترة نظام عالمي يقوم على القطب الواحد، أما وقد أصبح العالم ثلاثي الأقطاب فإن ديناميات العلاقة باتت مختلفة. فمن ناحية أصبحت هناك مجموعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك التي لا يمكن إغفالها مثل "الاحتباس الحراري" والأخطار الطبيعية الأخرى، مضافا لها مؤخرا أزمة "كوفيد - ١٩" التي تهدد العالم كله بالوباء الذي لا يمكن لبلد أن يغلق نفسه تماما دونه. هذه القضايا فرضت من قبل وجود مؤسسات يشارك فيها الأقطاب الثلاث - أمريكا وروسيا والصين - مثل مجموعة الدول العشرين ومنظمة التجارة العالمية، وما جرى من تفعيل لمنظمة الصحة العالمية.
ومن ناحية أخرى فإن الدول الثلاث قامت بالضغط على الأطراف الأخرى خاصة من جانب الصين وروسيا من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر. فلم يجد أيا منها فرصة إلا انتهزها في سبيل كسب مناطق جديدة للنفوذ سواء كانت في أوروبا (ضم القرم من جانب روسيا للإقليم وتهديد أوكرانيا، واستخدام الولايات المتحدة لحلف الأطلنطي للإطاحة بنظام القذافي في ليبيا والحليف لروسيا، وقيام الصين بالتهديد المستمر لتايوان وإقامة الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي).
وأكثر من ذلك فإن الأطراف الثلاث لم تتوانَ عن شن حروب "سيبرانية" على الأطراف الأخرى تتدخل في الانتخابات وتغير من نتائجها. وفي دراسة "إلبريدج كولبي" بعنوان "إذا كنت تريد السلام، استعد للحرب النووية" المنشورة في دورية "الشؤون الخارجية" بتاريخ ١٥ أكتوبر ٢٠١٨ فإنه وضع احتمالين لتصعيد التوتر بين القوى العظمى: أولا، في صراع أكثر صعوبة، وأكثر غموضا، قد يتم إغراء المقاتلين بالوصول إلى السقوف النووية لتصعيد الرهان واختبار عزيمة الطرف الآخر.
وثانيا، إذا استولت موسكو على دول البلطيق أو غزت بكين تايوان، فمن المرجح أن يهدد خصما الولايات المتحدة باستخدام الأسلحة النووية أو استخدامها فعليا لإغلاق الباب على الهجمات المضادة الأمريكية، أو تقليص فعاليتها بشكل كبير. "وفي الحقيقة، هذا يشكل ركيزة أساسية لنظيرتها في النصر".
يقول المؤلف "هذا التهديد ليس من نسج الخيال"، حيث أنفقت روسيا الكثير من أموالها المحدودة على بناء ترسانة أسلحة نووية حديثة ومتنوعة. وتم تصميم جزء كبير من هذه الترسانة لمهاجمة أهداف عسكرية محددة بدلا من القضاء على المدن الكبرى في ضربة واحدة. وعلى سبيل المثال، تقوم روسيا ببناء عدد كبير من الأسلحة النووية البحرية، بما في ذلك صواريخ كروز المضادة للطائرات، والطوربيدات النووية. كما تشير التدريبات الروسية والمجلات العسكرية، فإن الفكرة وراء الاستراتيجية النووية لموسكو هي استخدام الأسلحة النووية المصممة لتسوية الحرب وفقا لشروط روسيا، والمقامرة بأن استخدام الأسلحة النووية سيرهب الولايات المتحدة على التراجع عن استراتيجيتها المعروفة باسم "التصعيد".
يمكن بعد ذلك إرسال قوى تقليدية فتاكة يمكنها الاستيلاء بسرعة على الأرض، والتمسك بها وإنشاء موقع دفاعي هائل. إن الهجمات النووية المهددة أو الحقيقية التي تهدف إلى وقف أي هجوم مضاد تقليدي قد تشنه الولايات المتحدة وقوات حلف شمال الأطلسي دفاعا عن حلفائها سوف تقود إلى عقد صفقة.
ويمكن لموسكو، على سبيل المثال، ضرب القواعد الأمريكية الرئيسية في غرب أوروبا أو أساطيل الولايات المتحدة في المحيط الأطلسي، بحيث يكون أمام واشنطن خيار بسيط: تسوية أو حرب نووية كبرى. الصين كانت أكثر تحفظا من روسيا في تراكمها النووي، ولكنها تعمل على تطوير قوات حديثة قادرة على استخدام الأسلحة النووية يمكن استخدامها في صراع إقليمي، مثل الصواريخ البالستية DF21 وDF26.
العالم هكذا يقف فوق سطح صفيح ساخن نتيجة التطورات الضخمة الجارية في الأسلحة النووية التي ساد الظن لفترة طويلة قبل وبعد الحرب الباردة أن هذه الأسلحة ذاتها قد باتت الضامن للسلام العالمي، نظرا لقدرتها التدميرية الهائلة.
"كوفيد-١٩" يضيف تعقيدات جديدة للموقف فربما يدفع الدول للتعاون ومن ثم تعود مسيرة السعي لمنع انتشار الأسلحة النووية، وتخفيضها لدى الدول العظمى، أو أنها سوف تخلق مناخا من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يولد الظروف صراعات وأزمات عالمية لا يمكن ساعتها إبقاء السلاح النووي بعيدا عنها!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة