المعوذتان خارج المصحف.. كيف حوى صحيح البخاري روايات مخالفة للقرآن؟
جدل لا ينتهي حول كتاب "صحيح البخاري"، بل يمكن وصفه بـ"معركة حامية الوطيس" بين فريق يعتبره "أصح كتاب بعد كتاب الله" وآخر ينادي بتنقيحة لتجديد الخطاب الديني.
واحدة من حلقات الجدل أثارها، مؤخرا، الكاتب الإماراتي، جمال سند السويدي، الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، بتدوينة تخص صحيح البخاري.
كتب "السويدي" تغريدة عبر حسابه على موقع "تويتر"، قال فيها: "البخاري يقول في صحيحه إن سورتي الفلق والناس ليستا جزءاً من القرآن الكريم".
البخاري.. فريق الدفاع
أول من تفاعل مع التغريدة كان الداعية السعودي، أحمد الغامدي، الذي قال "هذا كلام غير صحيح فالبخاري لم يقل ذلك، إنما روى ما نقل عن ابن مسعود من قوله، واجتهاده أنهما ليستا من كتاب الله، وليس حديثا عن النبي ولا قولاً للبخاري، وكم من صحابي اجتهد اجتهادًا خاطئًا فماذا كان؟، فلماذا كل هذا التهويل؟ بل هذا يدل على نزاهة المحدثين وصدقهم بنقل اجتهاد الصحابة".
ورد الغامدي على متابع سأله: "لماذا الاحتفاظ بما هو خاطئ داخل كتب الصحاح؟"، فقال:"لم يثبت لدي سند صحيح بهذا النقل فلا نستشكل الحكمة من ذلك لأن التوضيح فرع التصحيح".
واعتبر الداعية السعودي، والمدير العام السابق لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة، أن "نقل البخاري هذا الأثر لا يخرج عن حالين: أحدهما أنه يرى صحة سنده لكن أراد ابن مسعود أنهما ليستا من كتاب الله، أي لا تثبت في المصحف مع إقراره بقرأنيتها، لأن السورتين ثابتة في قراءة ابن مسعود".
وأوضح أن الحالة الثانية: "أنه يرى متوقف فيه أو يرى ضعفه، لكن أمانة النقل دفعته لروايته في كتابه من باب التعريف والعهدة على من رواه، مكتفيا بذكر سنده، وهو أبعد من الاحتمال الأول".
رواية البخاري في الميزان
تروي الرواية عن عبد الله بن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من مصحفه، فيقول: (ألا خلطوا فيه ما ليس فيه)، الغريب في هذه الرواية أنها تتعارض مع الأحاديث النبوية، ومع قراءة ابن مسعود نفسه للقرآن، حيث تتضمن قراءته هاتين السورتين.
وقد رد على صحة هذه الرواية أكثر من عالم من علماء المسلمين عبر التاريخ، منهم ابن حزم الذي ذكر في المحلى: "كل ما روي عن ابن مسعود أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح، وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن والمعوذتين".
وقد حاول بعض العلماء تبريرها وتفسيرها، فقال ابن حجر في الفتح والزرقاني في مناهل العرفان: "يحتمل التأويل بأنه قال ذلك قبل ثبوت قرآنيتهما عنده، فلما ثبت ذلك عنده وافق جمهور الصحب فيهما وكان يقرئ بهما".
وقال الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن: "لعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس؛ لأن قراءة عاصم عن ابن مسعود ثبت فيها المعوذتان والفاتحة وهي صحيحة، ونقلها عن ابن مسعود صحيح، وكذلك إنكار ابن مسعود للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر. إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعا بين الروايتين".
والشوكاني في تحفة الذاكرين قال: "كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه، ويقول إنهما ليستا من كتاب الله تعالى، ورجال إسناد عبدالله بن أحمد رجال الصحيح، ورجال إسناد الطبراني ثقات، وهكذا أخرج البزار في مسنده أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من المصحف، ويقول إنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعوذ بهما وكان عبدالله لا يقرأ بهما، ورجال إسناده ثقات، وهكذا أخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات".
وقال البزار: "لم يتابع عبدالله بن مسعود أحد من الصحاب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف".
صحيح البخاري لم يكتمل
يرى الباحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي، هاني عمارة، أن البخاري توفى قبل إكمال صحيحه، واستشهد بأن صحيح البخاري لا يشمل مقدمة، عكس مسلم الذي وضع مقدمة لكتابه شرح فيها منهجه، موضحًا أن المقدمة آخر ما يدون من الكتاب بعد الفراغ من متنه.
ويضيف عمارة، في مقال نشره عام 2019، أن نسخ البخاري تختلف في عدد الأحاديث؛ فتنفرد نسخ بذكر أحاديث لا تحويها نسخ أخرى، بخلاف التغيير من ألفاظ الأحاديث من نسخة لأخرى.
وعرض أمثلة لهذه من بينها حديث: زنا القرود، وغيرها من الأحاديث المشكلة سندًا ومتنًا، قائلاً "البخاري ربما أضاف الحديث في تعديل لاحق، أو أسقطه لظهور علته".
واستشهد عمارة بقول المهلب بن أبي صفرة التميمي المالكي الأندلسي، المتوفى سنة 435 هجرية وصاحب أول مختصر للبخاري، والذي قال في مقدمة كتاب "المختصر النصيح تهذيب الكتاب الجامع الصحيح": "ثم إني تدبرت هذا الكتاب الصحيح الذي جعله الله في آخر الزمان عصمة للمختلفين، وحكمًا للمتفرقين، ورحمة للعالمين، فألفيت مؤلفه رحمه الله على ضمان الصحة، وجامعه عن أهل الثقة، لم يبلغ من تهذيبه ما أراد، ولا تمكن فيه من كل ما أمل، واستدللت على أنه أعجل عنه بأجل، أو غالب شغل".
كما استشهد بنقل الحافظ ابن حجر في مقدمة "فتح الباري شرح صحيح البخاري" نقلًا عن أبي الوليد الباجي ما نصه: "حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض".
تنقيح البخاري
دعا العديد من المفكرين التنويرين والعلمانيين إلى ضرورة تنقيح صحيح البخاري، حتى إن بعضهم- الباحث الإسلامي أحمد عبده ماهر- رفع دعوى قضائية ضد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، تطالب بإلزامه بتنقيح البخاري.
طلب ماهر بإلزام شيخ الأزهر بتنقيح البخاري، واتهم البخاري بالعبث بالقرآن بسبب عدة روايات من بينها رواية ابن مسعود عن المعوذتين.
ورفض الباحث الإسلامي ذكر البخاري أن الرسول حاول الانتحار أكثر من مرة، قائلاً: "كيف يقول رجل إن رسول الله رجل ضعيف التكوين والنفسية، كذلك باب التداوي ببول الإبل، كذلك قوله بأن من تصبح بسبع تمرات من عجوة... لا يضر من سحر في يومه فهذا كلام عبث وتخاريف".
موقف القضاء المصري
لكن محكمة القضاء الإداري المصرية، حكمت في ديسمبر 2020، بعدم قبول الدعوى، واستندت إلى "كتاب صحيح البخاري من أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وأن مثل هذه الدعاوى تهدف في المقام الأول للتشكيك في ثوابت الأمة وهدم السنة النبوية المطهرة، تحت مزاعم تنقيح التراث".
تنقيح البخاري.. مؤامرة على الإسلام
يذكر أن العديد من المشايخ يعتبرون أي حديث عن تنقيح البخاري أو تجديد الخطاب الديني مؤامرة على الإسلام، تستهدف تجديد الدين وليس الخطاب الديني فحسب.
البخاري "جاء بإرادة إلهية"
قال الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار بالأزهر، في ذكرى وفاة البخاري العام الماضي، إن"قلبي يتقطع مرارة على هؤلاء الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يفتون بغير علم".
وهاجم هاشم من يهاجمون البخاري، وقال: "إنه لا يوجد على ظهر الأرض إنسان معه عقله ينكر حديثًا واحداً في صحيح البخاري، وأشهد الله لم أجد حديثًا واحدًا من كتب حديث البخاري غير صحيح وإن الذين يقولون هذا الهراء الذي ملأ الإعلام ليل نهار يقولونه عن جهل وتجاهل".
ووصف هاشم البخاري بأنه "جاء بإرادة إلهية في العصر الذهبي لتوثيق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم"، مشيرًا إلى أن البخاري كف بصره وهو صغير ودعت أمه المولى عز وجل أن يعيد بصره ورأت الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام يقول لها خففي عنكِ فقد استجاب الله دعاءك فلما رأته وجدت بصره قد عاد إليه.
هل البخاري كله صحيح؟
لحل الإشكالية، قال الدكتور عبدالحليم العزمي، الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية، إن صحيح البخاري مقسم إلى عدة أبواب فقهية، مثل كتاب الصلاة والصيام وغيرها، مضيفًا أن كل كتاب به عدة أبواب.
وأشار العزمي، في تصريح خاص لـ"العين الإخبارية"، إلى أن البخاري كان يذكر في كل باب مجموعة من الأحاديث الصحيحة، ثم يعرض ما يسمى بـ"الشواهد والمتابعات"، وهي أقوال ليست من كلام النبي، بل هي أحاديث موقوفة على الصحابة أو مرفوعة للنبي، وهذه لا تدخل في حكم الصحيح.
وأكد الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية، أن البخاري بعد ذلك كان يعرض مسألة لطلبة العلم ليس فيه شروط الحديث الصحيح الخمسة وهي: اتصال السند، وعدالة الراوي، والضبط، وعدم الشذوذ، وعدم العلة.
وأوضح أن من هذه المسائل روايات: زنا القردة، وسحر النبي، ومحاولات انتحار النبي، وغيرها من الروايات التي لا تتوفر فيها شروط الحديث الصحيح، وكان عرضها لطلبة العلم لكي يقوموا باستخراج العلل التي بها، مشيرًا إلى أن هذه العلل قد تكون: التعارض مع القرآن، أو أن الكلام لم يصح عن النبي، أو مقطوع السند وغيرها.
واعتبر العزمي أن أبرز الروايات التي يهاجم بها البخاري ليست صحيحة، وإنما بها علل، ولا يجب أخذها في الاعتبار.
من هو البخاري؟
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزبَه الجعفي البخاري، يعتبر من أهل علماء الحديث عند أهل السنة، وقد ولد في بخارى (أوزبكستان حاليًا) في شوال 194هـ - يوليو 810 م.
يعتبر كتابه "صحيح البخاري" أحد الكتب الستّة التي تعتبر من أمهات مصادر الحديث عند أهل السنة، وهو أوّل كتاب مصنّف في الحديث الصحيح المجرّد كما يعتبر لديهم أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم.
ذكر المؤرخون أن سبب إخراجه لكتابه المعروف اختصارًا باسم "صحيح البخاري"، هو أنه سمع الشيخ إسحاق بن راهوية يطلب جمع كتاب مختصر لصحيح سنة النبي، فعمل على جمعه.
اختلف العلماء في عدد أحاديث صحيح البخاري، فقال ابن الصلاح والنووي: أن عدد أحاديثه "7275" حديثاً، وبدون المكرر أربعة آلاف، وقال ابن حجر: إنه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات "7397" حديثاً، والخالص من ذلك بلا تكرار "2602" حديثاً، وإذا أضيف إلى ذلك المتون المعلقة المرفوعة وهي "159" حديثاً فمجموع ذلك "2761"، وعدد أحاديثه بالمكرر والتعليقات والمتابعات واختلاف الروايات "9082" حديثاً، وهذا غير ما فيه من الموقوف على الصحابة والتابعين.
aXA6IDE4LjExNi41Mi40MyA= جزيرة ام اند امز