تشير الأنباء خلال الأيام الماضية إلى أن اتصالات تجري بين الصين وروسيا من جانب، ومليشيات الحوثي في اليمن، بهدف تهدئة الوضع المتأزم في مدخل البحر الأحمر، وتخفيف حدة التوتر في الممر الملاحي الحيوي للتجارة العالمية.
وبشكل محدد، اتفقت الدولتان مع "الحوثيين" على تأمين مرور سفنهما في البحر الأحمر، مقابل "تقديم دعم سياسي".
وفي هذا التطور دلالات مهمة جديرة بالقراءة وفهمها. كما أنه يثير تساؤلات عما إذا كانت سياسات وتحركات الدولتين (الصين وروسيا) في الشرق الأوسط ستختلف عن السياسات والتحركات الأمريكية.
الملاحظ أن رؤى وتوجهات بكين وموسكو نحو الشرق الأوسط، اختلفت مؤخراً بشكل ملموس. فقد كانت بكين تنأى بنفسها دائماً عن أي تحركات سياسية، وتتجنب اتخاذ مواقف واضحة من القضايا الإقليمية والداخلية، خصوصاً القضايا السياسية والنزاعات المعقدة تحت بنود أن اهتمامها يتركز في الجانب الاقتصادي.
بينما موسكو تحاول منذ فترة إيجاد دور لها في سياسات وتطورات الشرق الأوسط، لكن بحذر شديد ودون المخاطرة باستعداء الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الكبرى في أوروبا.
وحتى بعد أن رعت الصين الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران في فبراير من العام الماضي، كانت النظرة الغالبة على تقييم هذه الخطوة، تعتبرها استثنائية وليست مؤشراً إلى تحول حقيقي في السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط، ما لم تتبعها خطوات أخرى مماثلة، وها هي الخطوة التالية جاءت، ولو بعد عام كامل.
في الوقت نفسه، كانت روسيا خلال ذلك العام، تزداد نشاطاً في تحركاتها الدبلوماسية بالشرق الأوسط، وترفع وتيرة اهتمامها بالحضور والتأثير في قضايا المنطقة. وظهر ذلك إلى حد ما في مواقفها تجاه أزمتي السودان واليمن، ثم اتخذت مظهراً أكثر وضوحاً وعملية منذ بدء حرب غزة، حيث مالت إلى مساندة الفلسطينيين سياسياً، وقامت بالفعل بوساطة لتجسير الفجوة بين الفلسطينيين، حتى إنها استضافت لقاء جمع القوى الفلسطينية.
ولكل من الصين وروسيا دوافع خاصة بكل منهما نحو لعب أدوار سياسية في الشرق الأوسط. فالصين تريد حماية مصالحها الاقتصادية الهائلة التي تعتمد إلى حد بعيد على الشرق الأوسط، سواء كمورد للطاقة أو سوق استهلاكي للصادرات الصينية، فضلاً عن التحكم في أهم الممرات الملاحية بين الشرق والغرب.
أما روسيا فإن إحياء النفوذ والحضور العسكري والسياسي بالشرق الأوسط، بات جزءاً جوهرياً من خطط موسكو الأمنية ورؤيتها للعالم، التي تتضمن تأسيس نقاط تمركز وشبكات حمائية سياسية فيما وراء مجالها الحيوي المباشر. كما كان لمواقف دول الشرق الأوسط من حرب أوكرانيا تأثير كبير على مراجعة موسكو حساباتها تجاه المنطقة.
هناك أيضاً دوافع مشتركة بين البلدين، أهمها الرغبة في ملء الفراغ الذي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تتركه تدريجياً. وفي الوقت ذاته، استغلال تراجع قدرة واشنطن على التأثير العميق والتحكم المباشر في قضايا المنطقة.
ومقابل هذه الدوافع، الخاصة والمشتركة، يوجد عامل مهم للغاية في إفساح المجال أمام بكين وموسكو في المنطقة. وهو مدى قابلية دول المنطقة للتفاعل الإيجابي مع تلك الأدوار الجديدة لروسيا والصين في الشرق الأوسط.
والواقع أن دول الشرق الأوسط تتطلع إلى أدوار سياسية أكبر للدولتين في المنطقة. شريطة أن تكون أدواراً محايدة وإيجابية بالنسبة لمصالح واستقرار المنطقة، وليس بازدواجية في المعايير أو انحياز لأطراف محددة كما كانت السياسات الأمريكية.
فقد تغيرت نظرة دول المنطقة للصديق والحليف الأمريكي، بعد أن أثبتت واشنطن في مرات كثيرة أن الدول العربية كانت تبالغ في التعويل عليها، سواء كراعٍ للاستقرار والأمن الإقليمي، أو حتى كوسيط محايد في مشكلات وأزمات المنطقة. سواء مع إيران أو إسرائيل أو انتفاضات الربيع العربي.
أما في الأزمة اليمنية، فإن واشنطن تتعامل منذ سنوات مع الحوثيين بتساهل، وتتجاهل خطورتهم على أمن دول الخليج والمنطقة كلها، وفور أن هدد الحوثيون أمن إسرائيل وقصفوا سفناً غربية وتسببوا في تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، بادرت واشنطن ودول غربية أخرى إلى تشكيل تحالف عسكري، وجه ضربات محددة ضد أهداف عسكرية للحوثيين في اليمن.
ولذلك فإن نجاح أو اكتمال التوجه الروسي والصيني نحو الشرق الأوسط، مرهون بتجنب الدولتين أخطاء الولايات المتحدة التي أفقدتها كثيراً من مكانتها بل ومصالحها مع الدول العربية. وهو ما يتطلب امتلاك موسكو وبكين إرادة حقيقية للدخول الإيجابي والفعال إلى المنطقة. أي بمنهج تبادل المنافع، عبر تعظيم المصالح المشتركة أو بمواجهة التهديدات والتحديات المتشابهة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة