كتاب "غُرفة 304".. قوقعة تتسع أحيانا لخطط الاختباء
عبر سيرة ذاتية يطرح الكاتب والباحث المصري عمرو عزت في كتاب جديد عددا من الأفكار بمرجعيها العقلي والعاطفي من وجهة نظر الآباء والأبناء.
يستعين الكاتب والباحث المصري عمرو عزت، في عنوان كتابه "غُرفة 304"، بلمحة فانتازية تترك لدى القارئ انطباعا مُبكرا بإقدامه على عالم بملامح فُندقية، بما تتيحه الفنادق لروادها من خصوصية وعُزلة، لا تتوفر عادة في البيوت وغُرفها.
لكن مع تقدم القراءة تتكشف مقاصد الكاتب وإحالاته، وهو يُسلمك خيوطا طويلة ومُشتبكة زجت به داخل غرفته لسنوات، مشغولا بمساحته الخاصة، وهو يتأمل بواكير تماس سلطة والده برؤيته للعالم؛ لتصبح غُرفته هي قوقعته الخاصة للهُدنة والتقاط الأنفاس، وإعادة قراءة ما يحدث من حوله لتشكيل العالم من خلف بابها المُوصد غالبا.
رغم تصنيف كتاب "غُرفة 304.. كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عاما" كأدب سيرة، فإنك تستطيع قراءة الكتاب الصادر حديثا من مستويات عدة، فالسيرة هنا أرض لطيوف مُتسعة، منها الحوار والتدوين، والقراءة البحثية في السياسة والفكر، تقرأ عنها بقلم الطفل والطالب والباحث المُراقب، والمُنتصر والمهزوم أيضا.
يُناقش الكتاب، الصادر عن دار "الشروق" المصرية، عددا من الأفكار بمرجعيها العقلي والعاطفي من وجهة نظر الآباء والأبناء، ما يجعل الكتاب مسرحا يضج بمُفاوضات الآباء وأبنائهم، لا سيما عند المُنعطفات الحياتية والمصيرية، ورد فعل الأبناء في كثير من الأحيان بالاختباء وتأجيل الصراعات والمناورات كسبيل للتفاعل مع آبائهم الذين لا يُشبهونهم، ويخشون من خوضهم تجارب لم يخوضوها هم، حتى وإن كان على سبيل اختيارات القراءات في الفن والسياسة، أو تغيير المسار الدراسي، أو حتى المفهوم الخاص للنجاح والتحقق.
ينطلق عمرو عزت في سيرته من مدخل واقعي ورمزي يُمهد به لفكرة التميز والاختلاف كمُكون من مكونات الفطرة، فيتحدث عن لحظة ولادته بأثر على جبهته، يُطلق عليه شعبيا لفظ "وحمة"، تلك البقعة الحمراء النبيتية التي تحتل النصف الأيمن من جبهته ورافقته على مدار عمره، وما يرتبط بها من تفسيرات ومُصطلحات شعبية مثل "ختم الجنة"، ولم يسعَ الكاتب للتخلص منها رغم إتاحة عمليات التجميل وشيوعها، وكأن الطبيعة منحته بوابة مُبكرة لإدراك وتقدير فكرة التميز.
يفتح الكاتب الباب في كتابه، الذي يقع في 111 صفحة، لقارئه للاستماع لحواراته مع والده، وتأمله المُوزاي لذكرى جده، وأثر كل منهما في رحلته التأملية، يقول: "لا يشبه أبي أباه، ربما بنفس القدر الذي لا أُشبه به أبي، لأنني أشبه جدي كثيرا"، إنه هنا يرصد بين الكاتب وجده مواطن تشابه عابرة للزمن، تجعل الكاتب ابن الثمانينيات مشدوها لعالم الثلاثينيات المُحمّل بشجون أغنيات محمد عبدالوهاب، التي تشعر أنها شريط صوتي لفيلم حياة الكاتب، الذي يستحضر على صوته نوستالجيات جده الناعمة كمشهد جلوسه في الشرفة يشرب الشاي، ويعتني بزوجي الحمام في القفص، ويصحب حفيده "المؤلف" في صباحات يوم الجمعة لشراء الخبز والفول، ذكريات تحمل في قلب الطفل ذي السبع سنوات الكثير من الأثر، ويحملها في كتابة السيرة بعد تخطيه الثلاثين بكثير من الذهن الرائق وهو يقول عنه: "كنا نتبادل عبارات قصيرة وأوقاتا طويلة من الصمت".
على عكس ثيمة الصمت هنا، تستمع رغم هدوء الكاتب النسبي وميوله الانطوائية منذ طفولته، لشريط جدلياته مع والده، التي تمتد إلى شقوق الحياة والمصير، لتتسرب إلى اهتمامته الدراسية والقرائية والفكرية وحتى التمردية، الأب الذي يقود دفة كل شيء بكثير من الحرص والرعاية، يتناول تفاصيل ابنه بشيء من السيطرة أحيانا بدافع من الخوف، أو ما يصفها الكاتب بـ"مأزق الأبوة" الذي يتعاطف هو نفسه معه كثيرا، وفصّله في جملة مفصلية في الكتاب تبعت إحدى مناقشاتهما: "لم أناقشه، احترمت كل ما رأيته يعاني في كبحه، كانت واحدة من اللحظات المؤهلة أن تكون إحدى المواجهات المتوترة، لكنه قطع طريقا طويلا نحوي، شعرت نحوه بحب بالغ، وبتعاطف كبير مع مأزق الأبوة، تعاطف أخرجني من مخبئي وأتخيل خوفي على ابني وماذا كنت سأقرر لو كنت مكانه، غالبا كنت سأفعل مثله تماما".
يُفسح عمرو عزت للمشاعر المتضاربة غُرفا متسعة في كتابه، التعاطف والعناية والمحبة وحتى التعبير عن الإعجاب والتعاطف، إلى مشاعر الغضب والحزن وحتى البكاء: "بكيت أمام أبي مرات قليلة، كان استياؤه من ذلك أكبر من أي موضوع آخر للمواجهات المتوترة بيننا"، ورغم هذا الصلد الذي كان يريد الأب أن يُغلّف به صورة ابنه، من باب الحماية أولا، كان لا يمنع تضامنه مع انكسارات ابنه واختياراته حتى التي كان يتحفظ عليها "أعتقد أن أبي يحب أن يراني غاضبا وثائرا على أن يراني حزينا ومنكسرا".
سنوات طويلة من الانسحاب والعُزلة، أفسح الكاتب لنفسه فيها فرص الاختيار داخل غرفته، بشقيها المكاني والدلالي، اختيارات وجد فيها والده بفطرة الآباء ألعابا خطرة، تمُر السيرة وتتبدل الظروف الأسرية وخريطة العائلة، ويترك الكاتب تلك الغرفة بمغادرته بيت والده لبيته الجديد، مع تقاطع ذلك القرار بظروف سياسية واجتماعية جديدة، يُغادر الغرفة 304، مُعلقا بنظرة لها من بعيد وهي تُحلق بجناحي العناية الأبوية.. وحصارها.