دخل الصراع الظاهر والخفيّ ما بين روسيا الاتحادية والناتو منعطفًا مثيرًا للحذر والترقب.
وبات التساؤل الذي يهمّ المراقبين الدوليّين: أيّ مسار سوف تقودنا إليه الأزمة.. الصراع الشامل والكامل والذي يؤدي بنا إلى المواجهة العالمية بأبعادها الكارثيّة، أم جولة صراع محدودة تجمع ما بين المواجهة العسكرية المحدودة والسياسية والاقتصادية المُوسَّعة؟
يومًا تلو الآخر يزداد الغموض، ولا يدري المرء ما حقيقة المشهد، لا سيما وأنّ نتيجة المفاوضات بين روسيا والغرب، والتي جرت مؤخّرا بقيت وراء الكواليس، وقد انتهت اللقاءات التي جرت لمناقشة المقترحات الروسيّة الأمنية من غير إعلان شافٍ وافٍ، ما يعني أنّ المفاوضين لم يصلوا إلى النتيجة المقبولة.
للذين هم من غير أهل الاختصاص، يريد الناتو التقدّم إلى القرب القريب جدًّا من حدود روسيا الاتحادية، الأمر الذي تعتبره روسيا طرحًا غير معقول ولا مقبول، ولن يُسمَح به بأيّ ثمن من الأثمان.
تنَكَّرَ الناتو لوعوده السابقة قبل ثلاثة عقود، في ذلك الوقت وحين عمد الغرب إلى تفكيك وتفخيخ الاتّحاد السوفييتيّ، قالوا بأنّهم لن يقتربوا من حدود روسيا، وسيحفظون لها كرامتها، ولن يتسبّبوا في إيذاء مشاعر الروس الوطنيّة.
مؤخّرًا، قال الأمين العامّ لحلف الأطلسيّ، ينس ستولتنبرغ، إنّ الناتو لم يتعهّدْ بأي التزامات، وما من شيء يلزمه بما تراه روسيا، وأنه من حقه التقدم إلى حيث يشاء ساعةَ يريد.
أبعد من ذلك، وقبل بضعة أيّام كان يؤكّد أنّ حلف شمال الأطلسي قد وافق مبدئيًّا على انضمام أوكرانيا وجورجيا إليه، غير أنه لم يحدد موعدًا زمنيًّا بعدُ لذلك.
نيات الناتو لروسيا في واقع الأمر ليست وليدة اليوم، ففي 2008 حاولت إدارة جورج بوش تغيير الأوضاع في جورجيا، غير أنّ روسيا مضت بقوة السلاح الثقيل مرة وإلى آخر المطاف، وفشلت الخطّة الأمريكيّة.
في قمة الناتو في بوخارست عام 2008، تبنّى الأعضاءُ قرارًا بأنّ أوكرانيا وجورجيا سوف تصبحان عضوَيْن في الحلف، دون أدنى التفاتة إلى ردّات الفعل الروسيّة.
هل يعني ذلك أنّ الناتو وأعضاءه يسعون بالفعل إلى تضييق الخناق على القيصر بوتين؟
أكثر من مرّة، وفي قراءات وتحليلات سابقة، قلنا إنّ الدبّ لا يُقَيَّد، كما أنّ روسيا لم تعد ذلك الدبّ السوفييتيّ ثقيل الوزن بطيء الحركة، بل تحوّلتْ إلى الثعلب الرشيق القادر على التحرّك بسرعة كبيرة، وبخطط ما ورائيّة غير ظاهرة للعيان، وبخاصّة لخبراء الناتو وعسكريّيه من الأوروبيّين أو الأمريكيّين.
في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول المنصرم قال مستشار الأمن القوميّ الأمريكيّ جالك سوليفان: "لا أحد قادر على قراءة ما يدور في عقل بوتين، وهل سيعمد إلى تأجيج الأوضاع حول أوكرانيا أم أنه يفضّل التهدئة؟
يختلف فلاديمير بوتين بشكل جذريّ عن ميخائيل غورباتشوف، الأخير ربّما بحسن نِيّة تسبَّبَ فيما اعتبره الأول "أكبر خطئية أدبية، وكارثة لوجستيّة في تاريخ القرن العشرين"، أي اضمحلال الاتحاد السوفييتي السابق، وتقاذف المصير الروسيّ بين الأوروبيّين والغربيّين، مع الوعد بأنّ ما جرى لن يتكَرَّرَ ثانية.
في مارس المنصرم، حشد القيصر قواته الثقيلة وعشرات الآلاف من جنوده على الحدود مع أوكرانيا، وتوقّعَ الجميع أن يُقدِم على خطوة عسكريّة تأديبيّة لأوكرانيا، وإن كان قصد بها العمّ سام والحلفاء الأوروبيّين، لكنه لاحقًا سحب قوّاته، الأمر الذي أربك حسابات الناتو.
الآن يتكرّر المشهد، وبشكل يدعو القوى الأوراسيّة برمّتها للقلق دفعةً واحدة، فهناك على الحدود مع أوكرانيا أكثر من مائة ألف جندي، كما تقوم موسكو بنقل كثير من العتاد الثقيل من قواعدها في الشرق إلى الغرب، عتاد يشمل الدبابات وآليات المشاة وقاذفات الصواريخ وغيرها من أدوات الحرب.. والسؤال: إلى أين ستذهب هذه جميعها؟
الجواب ربّما نجده عند الخبير في الشؤون العسكرية الروسية، والزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهو مؤسّسة فكريّة أمريكية، وفيه أنه: "من شبه المؤكّد أنّ هذه الأشياء ستذهب إلى أوكرانيا"، مضيفا: "العتاد العسكري هو أول ما يتمّ نقله في الأزمة الحالِيّة من المنطقة العسكرية الشرقية إلى الطرف الآخر للبلاد".
يترك بوتين الناتو في حيرة من أمره، لا سيما وأنّ أحدًا غير قادر على توقّع الخطوة التالية، وهل هي القيام بعملية عسكرية محدودة داخل الأراضي الأوكرانية، أم أن القوات ورقة تفاوضيّة مع الغرب وتهديد واضح باستخدام القوة حالَ مضت واشنطن وبروكسيل في مخطّطاتهما.
ولعلّ علامة الاستفهام الجديرة بأيّ محلِّل سياسيّ محقّق ومدقّق أن يطرحها: ما الذي يريده الناتو من روسيا؟
تبدو هنا استراتيجية شدّ الأطراف الجواب عما تقدّم، والقصّة باختصار غير مُخلّ تعني أنه إذا لم يكن من الممكن قصقصة أجنحة روسيا من الداخل، فإنه من الممكن تقليم أظافرها في الخارج.
روسيا اليوم هي صاحبة الصواريخ الفرط صوتية المُجنَّحة، وهي مالكة غوّاصات بوسيدون الكهربائيّة التي تتحَكّم فيها من على البُعْد وبغير عنصر بشريّ، كما أنّها روسيا التي تحوز صواريخ باليستيّة نوويّة من نوعيّة سارامات وتوبولوف وغيرهما.
روسيا اليوم هي التي استطاعت تحقيق مكاسب كبيرة من أخطاء السياسات والإدارات الأمريكية السابقة، لا سِيّما إدارة باراك أوباما المعروفة بـ"القيادة من وراء الكواليس"، وملأت موسكو الكثير من مرَبَّعات النفوذ شرق أوسطيًّا وآسيويًّا، وبدت روسيا من جديد في عيون حلفائها الشريك الأكبر والصديق الأقرب الأكثر موثوقيّة من واشنطن التي تتخلى عن أصدقائها عند أقرب منعطف.
عطفًا على ذلك، فإنّ الحلف الروسي-الصيني، الصاعد في الأفق يقضّ مضاجع واشنطن، ولم تفلح سياسة العصا في الدواليب أن تفرّق بين موسكو وبكين، وكما أفلحت من قبلُ في أوائل السبعينيّات دبلوماسيّة "البنج بونج" لهنري كيسنجر.
المطلوب إذًا هو وقف النموّ الروسيّ المتصاعد وتقليص نفوذه في الأرجاء كافة، ولعلّ هذا ما يدعونا إلى القول إنّ روسيا ربّما تواجه "ربيعًا مغشوشا" من حولها، مثل ذلك الذي خبره العالم العربيّ في العشريّة الماضية، ولا تزال الآثار سيئة السمعة التي خَلَّفَها قائمة من ورائه.
لم تكن أزمة كازاخستان بدروها تدور بعيدًا عن ذات الغرض، فهناك من يسعى إلى أن يظلّ بوتين مشغولاً في دوائر سياسيّة وعسكريّة متعدّدة على أمل أن تتشَتَّتَ جهودُه.
نفد الصبر الروسيّ، من غير شكّ، في مواجهة الغرب المدفوع بالغطرسة مرّة ثانية، فاته أنه لم يقرأ هذه المرة الأزمنة والعلامات، ويتناسى ترك مربّعات خروج من الأزمة تسمح لبوتين بالخروج بكرامة أمام شعبه.
هل عطل الطقس الحار تقدّم الجنود الروس إلى قلب أوكرانيا؟
ربّما يكون ذلك واردًا بالفعل، وساعتها لن يكون أمام الناتو إلا سبيلٌ من اثنين، الأول هو الردّ عسكريًّا في المقابل، وهذا احتمال بعيد لأنّه يعني حربًا عالميّة، والثاني هو الاكتفاء بالعقوبات الاقتصاديّة، والتي تجَهَّزَتْ لها روسيا منذ زمان وزمانين.
وفي كل الأحوال، يبقى العالم أمام سيناريو كرة ثلج متدحرجة من فوق الجبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة