روسيا وسر الآلة العسكرية.. اقتصاد حرب مزدهر
بعد مرور عامين ونصف العام على حرب روسيا مع أوكرانيا، يبدو أن موسكو قادرة على الاستمرار في ضخ الأموال الدفاعية.
ومن المقرر أن يزيد الإنفاق على الجيش بأكثر من الربع ليصل إلى 13.3 تريليون روبل (143 مليار دولار) العام المقبل، وفقًا لمسودة ميزانية الدولة الروسية لعام 2025 التي تم الكشف عنها في الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول 2024. وهذا المبلغ الضخم -الذي يكاد يعادل ضعف المبلغ الذي أنفقته العام الماضي (6.4 تريليون روبل)- يعادل تقريباً ضعف حجم المبلغ الذي أنفقته بريطانيا على الدفاع عن نفسها، حسبما أورد موقع "The Spectator" البريطاني في تقرير حديث له.
وتنفق روسيا المزيد من الروبلات على الدبابات والصواريخ وتخصص حصة متزايدة من ناتجها المحلي الإجمالي للمجهود الحربي، من 3.7% في عام 2023 إلى 5.3% متوقعة هذا العام، و6.1% في عام 2025. ويتم حالياً تخصيص 3.4% أخرى من الناتج المحلي الإجمالي الروسي سنوياً لقضايا الأمن القومي، وهو ما يمكن إدراجه، في كل المقاصد والأغراض، جنباً إلى جنب مع الإنفاق العسكري للبلاد.
ويعد هذا المستوى المرتفع من الإنفاق رقماً قياسياً بالنسبة لروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي. لكنه لا يزال يمثل نحو نصف متوسط إنفاق الاتحاد السوفياتي السنوي على الدفاع في السبعينيات والثمانينيات. ويتوافق رقم العام المقبل تقريبا مع ما أنفقته الولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيات وأقل بكثير مما أنفقته إسرائيل كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع خلال معظم تاريخها.
ولا يستطيع الكرملين تحمل هذه التكاليف في الوقت الحاضر فحسب، بل إنه لا يزال بوسعه الاعتماد على الإنفاق العسكري لتعزيز إنتاجه الصناعي ونموه الاقتصادي. وحتى مع الانخفاض الطفيف في عائدات تصدير النفط والغاز بفضل انخفاض الأسعار وأحجام المبيعات المتوقعة في العام المقبل، فإن ميزانية 2025 لا تبدو محفوفة بالمخاطر. ومن المقرر أن يتم تحمل الفاتورة العسكرية المتزايدة للبلاد من خلال ارتفاع عائدات الضرائب غير النفطية. ويساعد الارتفاع الأخير في الضرائب على الشركات والدخل، فضلاً عن الزيادة الإجمالية في النشاط الاقتصادي، في تعزيز خزائن روسيا.
- النفط وسط «لهيب» الشرق الأوسط.. العالم ينتظر أزمة إمدادات
- إنتاج روسيا من الغاز يقفز بشدة في خضم الحرب والاضطرابات.. ما السر؟
مصدر آخر لدخل الحكومة هو السياسة المالية المتراخية مقارنة بتلك التي كانت سائدة في زمن السلم. قبل الحرب، قامت الحكومة بموازنة الميزانية لسنوات على أساس سعر النفط البالغ 40 دولارًا للبرميل مع تعديل سنوي بسيط. وفي السنوات السمينة، عندما كان السعر الفعلي للنفط أعلى من هذه العتبة، تم إخفاء الأموال الإضافية جانبا. وقد تم وضعه في ما كان في الأساس صندوق الأيام العصيبة، والذي يمكن استخدامه في السنوات العجاف عندما تنخفض أسعار النفط إلى ما دون العتبة.
وفي عام 2022، في أعقاب بداية الحربة مع أوكرانيا وفرض العقوبات الغربية، تخلت الحكومة عن هذا الحذر المالي وبدأت في إنفاق كل عائداتها النفطية. كما قررت اللجوء إلى صندوق الأيام العصيبة لتمويل استثمار رأس المال وعجز الميزانية إذا لزم الأمر. وبفضل هذا، تستطيع روسيا أن تتوقع عجزاً طفيفاً في الميزانية لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025.
لقد حافظت روسيا على ميزان تجاري إيجابي لسنوات عديدة، حيث استفادت من الصادرات أكثر من الإنفاق على الواردات. ومع ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال الإضافية كان لا يزال يغادر روسيا، حيث اشترى الأشخاص والشركات أصولًا في الخارج، وخبأوا الأموال في حسابات أجنبية أو تحت مراتب بالدولار، وأنفقوا على العطلات والممتلكات الأجنبية. ربما تكون العقوبات الغربية قد فشلت في تعزيز صادرات الطاقة الروسية، لكنها جفت تدفق رأس المال إلى الخارج، حيث يجد الروس الآن صعوبة أكبر في إنفاق الأموال في الخارج، مما يسهل عن غير قصد جهود موسكو الحربية.
كما أن كبار رجال الأعمال الروس تلقوا أرباحاً بمليارات الدولارات مع استئناف شركاتهم توزيع أرباحها أو تعزيزها وسط انحسار حالة عدم اليقين الاقتصادي بشأن حرب الكرملين في أوكرانيا.
وحصل ما لا يقل عن 12 من رجال الأعمال على أكثر من تريليون روبل (11.3 مليار دولار) لعام 2023 وفي الربع الأول من عام 2024 الجاري، وفقاً لبيانات حول أرباح الأسهم التي جمعتها وكالة "بلومبرغ" للأنباء من إفصاحات الشركات العامة.
من الناحية الاقتصادية، من المتوقع أن يؤدي تجاوز نمو اقتصاد الحرب في روسيا، إمكاناته، إلى خلق عدد كبير من المشاكل للبلاد، تتمثل في تراجع الإنتاج، وزيادة التضخم، فالاستثمار لا يزدهر إلا في القطاعات المرتبطة بالحرب، وسوق العمل يفتقر باستمرار إلى العمال. ولا يزال النفط يمثل نحو 27% من الإيرادات المالية للاقتصاد، وأصبحت الحكومة أكثر اعتمادا على سوق النفط بفضل استنفاد صندوقها المالي.
وكانت هيئة الإحصاءات الحكومية الروسية، قد ذكرت في أغسطس/آب 2024 أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد سجل نمواً بمعدل 4% على أساس سنوي في الربع الثاني من العام الجاري.
ليس هناك شك في أن الاقتصاد الروسي يعاني من فرط النشاط. ونظراً لعدم وجود قدرة فائضة تقريباً، فإن تخفيض قيمة الروبل لن يحمي الميزانية من انخفاض دخل التصدير، بغض النظر عما إذا كانت أسعار النفط قد انخفضت، أو تم تشديد العقوبات، أو كليهما. كل هذا من شأنه أن يؤدي إلى التضخم دون زيادة الإنتاج. إن الحظر التكنولوجي والعقوبات المالية، سيجعلان الاقتصاد أكثر عرضة للخطر.
ولكن الروس العاديين بدأوا يشعرون بالضغوط، وذلك بفضل القرار الذي اتخذه الكرملين بتحويل اقتصاد البلاد إلى حالة حرب. وليس من الواضح إلى متى سيتمكن بوتين من الاستمرار في تمويل آلته الحربية من دون التسبب في تذمر جماعي، إن لم يكن احتجاجات مفتوحة، عندما يتحول الازدهار إلى الركود.