يبدو أن الأوروبيين تعايشوا، اقتصاديا وسياسيا، مع الضغوط المتراكمة عليهم جراء فاتورة الحرب الروسية الأوكرانية، دون إسقاط عوامل قلقهم في الجانب الأمني وما قد تحمله تطورات الصراع من مفاجآت.
فالحرب دخلت عامها الثالث بينما لم يغادر جميع اللاعبين المنخرطين فيها، روسيا وأوكرانيا والغرب الأطلسي والولايات المتحدة، أروقة مساراتها الأولى التي فرضتها إدارة الصراع عليهم.
تعثرت جهود دبلوماسية عديدة، وتراجعت إرادات دول سعت عبر أكثر من محاولة لإنهاء الصراع. فرضت مأثرةُ النصر المنشود من جانب كل طرف على الطرف الآخر معادلة عصية على الاختراق.
فالجانب الأوكراني محكوم بمعضلتين؛ الأولى ذاتية محورها الدفاع عن أراضيه وبلاده، مضافاً إليها واجب استعادة عدد من أقاليمه الشرقية التي ضمتها روسيا بعد السيطرة عليها، إلا أن الوصول إلى هذه الأهداف وتحقيقها مرتبط عضوياً بخزائن الغرب والولايات المتحدة ومخازن سلاحهم وغطائهم السياسي.
أما المعضلة الثانية فيكمن جوهرها في قدرة كييف وداعميها الأطلسيين على الانتقال إلى سيناريوهات أكثر تفوقاً على الآلة العسكرية الروسية ولو ضمن حدود جزء من الأراضي الأوكرانية التي تخضع للإدارة الروسية.
إلا أن هذا الخيار لا يبدو متاحاً بسبب حسابات أمريكية وأوروبية مشتركة تحسباً لرد فعل روسي يتجاوز التوقعات، خاصة بعد إخفاق الهجوم الأوكراني المضاد قبل حوالي عام الذي كان بمنزلة الدليل على عدم توفر القابلية لدى الداعمين الأمريكيين والأوروبيين للانخراط الواسع في الحرب، رغم القدرات العسكرية التي يمكن توفيرها لو أن الأمر تعلق بالقوة فقط، وهذا ما تدركه موسكو جيداً التي يبدو أنها رسمت مساراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية استنادا إلى هذه المعادلة، وعززتها بمبدأين راسخين؛ الأول الرهان على الزمن وما قد يفعله على المستوى الأوكراني في مختلف المجالات: العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وانعكاس استمرار الحرب ومتطلباتها على الغرب الأوروبي من نواح عدة: أبرزها الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
بينما يتمثل عنصر الرهان الروسي الثاني على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يحل استحقاق الانتخابات الرئاسية العام الجاري في ظل تحولات ومناخات داخلية تشي بالانقسامات الكبيرة الداخلية على أكثر من صعيد.
واقتصر دور الأوروبيين -حتى الآن- على تلبية احتياجات كييف العسكرية والاقتصادية ضمن حدود الرغبة الأمريكية وما تمليه عليهم حسابات واشنطن ومصالحها بالدرجة الأولى، بحيث لا يندحر الجيش الأوكراني أمام نظيره الروسي؛ فهل ستكون رهانات الكرملين قابلة للتحقق؟
من المسلم به أن واشنطن هي الطرف الوحيد الذي يمسك بناصية الصراع مع موسكو على الأرض الأوكرانية، وما الغرب سوى داعم لعجلات العربة الأمريكية وهي تسير أمامهم، ومن شأن ذلك تسهيل عملية الجنوح نحو التفاوض بين الجانبين الروسي والأوكراني، لكن هل نضجت شروط التفاوض؟
إذا كان من الصعب التكهن بما يدور في خلد الإدارة الأمريكية من سيناريوهات بشأن مسار وآفاق الحرب، فليس من المستبعد أن تكون القضية الأوكرانية ورقة يلعبها الرئيس جو بايدن ضمن مجموعة أوراقه الداخلية الانتخابية، رغم أن هذا السيناريو ينطوي على تعقيدات ومخاطر كبيرة؛ بينها استغلال روسيا لوضع بايدن الانتخابي وتحويل هذه الورقة إلى عامل ضغط تؤثر على حظوظه وطموحه.
أما التصور الآخر ضمن الرهانات الروسية على العام الانتخابي الأمريكي فيسير باتجاه احتمال فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بحيث تتحدد مسارات الصراع بواحد من اتجاهين؛ أولهما: التفاهم مع موسكو لإنهاء الصراع من خلال ممارسة الضغط على الجانب الأوكراني، أمريكياً وأوروبياً، بعد أن أصبح أسيراً لهم، وثانيهما: إبقاء جذوة الصراع مستعرة ورفع منسوب القلق العالمي من مخاطر تحوله إلى حرب عالمية مع احتمال دخول أسلحة غير تقليدية إلى جبهاته، وهذا ما يحاول الجميع تجنبه.
كلما طال أمد الصراع الأوكراني تسلل الوهن إلى نفوس الأوروبيين قبل غيرهم، في حين أن موسكو، التي حققت مكاسب ميدانية محدودة في الآونة الأخيرة، تبدو مصممة على أن تبث رسائلها بلغتيها العسكرية والسياسية، بأنها أبعد ما تكون عن التردد أو التراجع قبل الوصول إلى أهداف ما تسميها «العملية الخاصة» في أوكرانيا.
أما الرئيس الأوكراني فلا بد أنه قد قرأ ملامح المناخ الأمريكي الناشئ حالياً وحتى نهاية العام الانتخابي وما قد يحمله، ولا بد أنه لمس إرهاصات التلكؤ الأوروبي إن لم يكن الامتعاض من الرضوخ لمتطلبات حرب وجدت نفسها في خضمها على حساب مصالحها. رسائل واشنطن لكييف باتت أكثر وضوحاً؛ سنواصل تعزيز أوكرانيا عسكرياً، لكن يجب عليكم الاستعداد للانخراط في حوار مع موسكو.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة