أشهر عدة وترقب "الهجوم الأوكراني المضاد" هو العنوان. ازدحمت الساحات العسكرية بالحشود على طرفي ميدان الصراع، بين مهاجم يستجمع ما أمكنه من سلاح وعتاد وجنود، ومُدافع يتأهب على أكثر من جبهة مرشحة للصدام، حتى ظن البعض أنها قد تكون الفصل الأخير في المواجهة، وحد
كييف لجأت في البداية إلى أسلوب المداورة في الحديث عن هجماتها على عدد من نقاط الاشتباك مع الروس، وموسكو تؤكد أن الهجوم الأوكراني المضاد قد بدأ فعلا، التمويه والمناورة عنصران جوهريان في المعارك وفي التخطيط لها. يوما بعد آخر تقدم الحرب الروسية الأوكرانية دلائل متزايدة على أهمية التفريق بين مفهومي القدرة والقابلية في إدارة الأزمات والصراعات السياسية، وكذلك في إدارة الحروب خاصة في الوقت الراهن، حيث تتجاوز صنوفُ وقدرات بعض الأسلحة التقليدية التدميرية مخيّلات البشر، فما بال الإنسان حين يتأمل الترسانات النووية المكتَنَزة في مستودعات القوى الكبرى ومخازنها؟
تبدو القدرة لدى طرفي الصراع قابلة للتحقق حتى الآن، الغرب الأطلسي وفي مقدمتها واشنطن يغدق على الجانب الأوكراني شتى أنواع صناعاته العسكرية وصنوفها باستثناء سلاح الجو، وروسيا تستجر من مخزون سلاحها المكدس والمتطور ما تحتاجه.
الفرق في هذا الجانب من حدّي معادلة "القدرة والقابلية" أن موسكو تغذي حربها من مصانعها بنسبة شبه كاملة، في حين تستند كييف في تعزيز قدراتها إلى مخازن الغرب والأمريكيين. معادلة فرضت إيقاعا منضبطا حتى الآن على مجريات الصراع. محدودية القدرة لدى الجانب الأوكراني أسهمت في عقلنة قابليته المتأججة وشهيته المفرطة لخوض حرب شاملة مع روسيا، قابله إدراك موسكو أن سلاح الأطلسي الذي يجابهها لن ينضب طالما أن واشنطن تدير ماكينة الصراع ضدها على النفس الطويل.
هل هو فعلا الهجوم المضاد الذي تحدثوا عنه، أم هو استمرار للسجال الميداني بين كر وفر بين الجانبين؟ ماذا لو أخفق الهجوم المضاد في تحقيق أهدافه المعلنة؟ هل ستسمح الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأطلسي أن يترجم الأوكران قابليتهم واندفاعهم ويستعيدون أراضيهم التي خسروها؟ وما إمكانيات الجانب الروسي ومدى قدرته وقابليته لامتصاص الهجوم متعدد الجبهات؟
على أرض الواقع يبدو أن السجال الميداني بين الطرفين حتى الآن هو العنوان الأكثر دقة وتوصيفا، اختيار عناوين وفصول الهجوم المضاد، وحصاده المتواضع حتى اليوم، تكشف مرامي داعمي كييف وغاياتهم أكثر من كونها تعبيرا عن مخططات أوكرانية محكمة لاستعادة أراضيه.
ليس بمقدور الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي فرض شروطه وخياراته العسكرية إلا بحدود ما تخدم الداعمين له، مسألة حسم المعركة عسكريا من قبل الجانب الروسي لم تعد قابلة للتحقق بسبب توازن الرعب وتوازن القوى، وبات الطرفان أمام واحد من خيارين، فإما البقاء في طور القتال سجالا، وهذا ما تم التخطيط له كما يبدو من قبل الغرب والأمريكيين، وإما اللجوء إلى تطوير الهجوم وتوسيع دائرة الصراع مع كل ما يستتبعه من مخاطر كارثية على العالم بأجمعه.
لا يغيب عن عواصم القرار الأطلسية حقيقة النقص الكبير في ترسانة كييف الجوية، ولا يغفل صناع القرار الأطلسيون عن قدرات وإمكانيات روسيا الصاروخية والجوية الفائقة ودورها وأهميتها في أمرين، الأول إفشال الهجوم، والثاني إحداث دمار أكثر هولاً مما تكشّف في أوكرانيا حتى الآن.
القاسم المشترك بين الجميع قد تبلور، وهو أن هزيمة روسيا غير ممكنة على يد القوات الأوكرانية من ناحية، وغير مجدية للغرب من ناحية ثانية إذا ما حاولوا، أو سعت واشنطن لدفعهم نحو هذا المسار، لأسباب جيوسياسية واستراتيجية.
يبدو أن كييف لا ترى سبيلا إلى تحقيق أهدافها إلا عبر اتباع سياسة "حافة الهاوية"، وربما يعزز هذا الاحتمال ما قامت به من حشد مواقف داعميها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لكنها ليست في موقع يؤهلها لاستدراج الأطلسي وواشنطن إلى مثل هذه المقامرة.
قد يكون "الهجوم الأوكراني المضاد" انعكاساً دقيقاً للأفق المسدود في هذا الصراع، أرواح البشر التي تُزْهَق شاهد على الاستنزاف المتبادل والذي قد يطول أمده.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة