تشهد الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة، حالة ارتباك نادرة في التعامل مع أزمة دولية كبيرة توشك أن تتطور إلى حرب عالمية ثالثة.
أهم ملامح هذه الحالة أنه يمكن توصيفها بأنها حالة ردود فعل متسرعة، وغاضبة، وانتقامية، ومن ثم فهي قصيرة الأمد في تأثيرها، ومشتتة في نتائجها.
فكثير من القرارات، التي صدرت عن الدول الغربية المنضوية تحت مظلة حلف الناتو ومَن دار في فلكها، كانت مرتبكة، وتأثيرها لا يصيب الهدف، بل يخبط عشوائيا في كل اتجاه، بما فيها مجتمعات هذه الدول واقتصاداتها.
هذا التشتت والارتباك في مواجهة الفعل الروسي في أوكرانيا بردود فعل أقل في القوة، وأضعف في التأثير، وليست من جنس الفعل، خلق فرصة سانحة لقوى أخرى في العالم أن تستفيد من الوضع الدولي الفاقد للسيطرة والقيادة، وأن تتحرك في اتجاه الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب.
ولعل الوضع الاستثنائي، الذي تمر به الولايات المتحدة، من حيث افتقاد الحسم في المواجهة، والتردد، والبطء في اتخاذ القرار، قد أغرى القوى الدولية الصاعدة أن تتحرك في اتجاهات مختلفة، ما جعل الدول الغربية، خصوصا أمريكا، تتخذ من القرارات ما ينال من شرعية قيادتها للعالم ويشكك في منظومة القيم، التي ظلت تسوقها لأكثر من قرنين من الزمان، فضلا عما يهز الاستقرار القانوني، الذي خلق حالة الثقة الدولية في قيادة الغرب للعالم.
في يوم 30 أبريل 2022 صرح وزير الخارجية الروسي "لافروف" لوكالة أنباء "شينخوا" الصينية، مبررا العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا بالقول إنها "تسهم في عملية تحرير العالم من الاضطهاد الاستعماري الجديد الذي يقوم به الغرب".
هذه اللغة الجديدة تستفيد من الوضع المرتبك، الذي تمر به الدول الغربية في موضوع الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها.
وأضاف "لافروف": "أولئك الذين ينتهجون نهجا مستقلا في السياسة الداخلية والخارجية، يحاول الغربيون قمعهم بأكثر الأساليب وحشية، وليس فقط ضد روسيا.. نحن نرى كيف يتم فرض السيطرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وبروح عقيدة مونرو القديمة، تسعى الولايات المتحدة إلى إملاء كيف وبأي معايير يمكن العيش في أمريكا اللاتينية، كما أن الضغط مستمر على بيلاروسيا.. هذه القائمة يمكن أن تطول".
ثم أكد الوزير الروسي ثقته بأن محاولات "الغرب الجماعي" لوقف المسار الطبيعي للتاريخ وحل مشكلاته على حساب الآخرين "محكوم عليها بالفشل"، لأن العالم الحديث "متعدد الأقطاب": "يتمتع كل فرد بحرية حقيقية في الاختيار، بما في ذلك طرق التنمية والمشاركة في مشاريع التكامل... إن الغرب وتوابعه يحاولون أن يكونوا حكما لمصير البشرية، لقد وصل الأمر إلى نقطة أن الأقلية الغربية تحاول استبدال بالهيكلية المركزية للأمم المتحدة والقانون الدولي الذي تم تشكيله نتيجة للحرب العالمية الثانية، نظاما قائما على قواعد تكتبها واشنطن وحلفاؤها بأنفسهم، ثم تفرضها على المجتمع الدولي باعتبارها ملزمة".
هنا يثور السؤال الجوهري: هل الحقائق على الأرض تشير الى إمكانية الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب؟ أم أن هذا مجرد شعار ومداعبة لعواطف دول العالم غير الغربي لحشد تأييدها للموقف الروسي في مواجهته الشرسة مع حلف الناتو؟
قد لا يكون من السهل الإجابة المباشرة والسريعة عن هذا السؤال الاستراتيجي الكبير، ولكن هناك إرهاصات كثيرة تجعل من مجرد التفكير في الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب أمرا ممكنا عقلا، وإن كان غير متاح تحقيقه بصورة سريعة في الواقع الدولي، وذلك للأسباب الآتية:
أولا: ما حققته ثورة المعلومات والاتصالات من انتشار العلوم والأفكار والاختراعات، مما أفقد العالم الغربي المزايا النسبية، التي كان يحققها من خلال احتكاره للاختراعات والابتكارات والعلوم والمعارف.
ثانياً: التراجع الشديد في رأس المال البشري في الدول الغربية، وتزايد الاعتماد على العقول المهاجرة، إلى الحد أن الضغوط الأمريكية على روسيا في الفترة الأخيرة بعد الأزمة الأوكرانية يرجع بعض أسبابها إلى الرغبة في تهجير العلماء الروس إلى الولايات المتحدة، فقد بدأت الإدارة الأمريكية في الأيام الأخيرة دراسة مشروع قانون يخفف قيود الهجرة والتجنيس لتسهيل استقطاب العلماء الروس في التخصصات التكنولوجية الدقيقة والاستراتيجية.
ثالثاً: ظهور منافسين اقتصاديين، من خارج الغرب، حريصين على "التمرد" على القيادة الغربية للعالم، يختلفون كثيرا عن اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين لم تكونا يوما في موقع المنافسة مع الغرب، بل كانتا امتدادا حضاريا له.
رابعا: ضعف المؤسسات الدولية التي صنعها الغرب للتحكم في العالم وقيادته، مثل الأمم المتحدة وغيرها، والتي بدأت تفقد جاذبيتها وبريقها.
هذه الأسباب وغيرها قد تمثل إرهاصات للانتقال إلى عالم ما بعد الغرب، إذا فقد الغرب قدرته على التصحيح الذاتي، واستعادة القوة، والتجدد الذاتي الذي كان جوهر فلسفة الحداثة لقرون عدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة