ترأست السعودية مجموعة العشرين، في ظروف استثنائية وعملت موفقة على توحيد رؤى الاقتصادات القوية.
شغلت الانتخابات الأمريكية العالم طوال الأسابيع، لما للولايات المتحدة الأمريكية من أهمية من ناحية، ومدى تأثير ذلك على التوازن الدولي من ناحية أخرى. فالشائع في علوم العلاقات الدولية، هو أنها ترتكز على القوى العظمى وعلاقاتها، والمنافسة بينها بالسلم أو بالحرب أو بالردع. والشائع أيضاً أن توصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيقال النظام متعدد الأقطاب، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين؛ أو نظام القطبين، كما كان في أعقاب الحرب الثانية؛ حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بالنظام الدولي. أو نظام القطب الواحد، كما كانت بريطانيا ما بين 1815 بعد هزيمة نابليون و1914 ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وحتى عام 2008، عندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية. وحاليا فإن العالم لم يعد أسيراً لقوة عظمى وحيدة؛ لأن التحدي للولايات المتحدة بات كبيراً؛ كما أن العالم لم يعد متعدد الأقطاب، ولكن العالم يدخل حثيثاً إلى منظومة ثلاثية القوى العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية، ودولة روسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية. ولكن لحسن الطالع أن النظام العالمي لم يعد أسيرا للحالة القطبية فقط ولا لقاعدة توازن القوى فحسب، بكل ما يكفله ذلك من أبعاد القوة الخشنة والناعمة والذكية.
فمع تعدد الموضوعات الدولية، وزيادة تكرار الأزمات الدولية الكبرى التي تؤثر على دول العالم جميعا، وكل ذلك مع موضوعات "عالمية" لا يكفي في تقرير أمورها قدرات الدول العسكرية والاقتصادية وإنما تحتاج إلى درجات مختلفة من التشاور المستمر، ولذلك كانت تنظيمات الأمم المتحدة المختلفة السياسية والاقتصادية، وآخرها إنشاء منظمة التجارة العالمية. ولكن من بين هذه التنظيمات فإن مجموعة الدول العشرين برزت لها أهمية خاصة، فهي ليست مجموعة الدول السبع الغربية في الأساس، ولكنها تمثل كل دول العالم وأقاليمه المختلفة. ومن المعلوم وأثناء آخر الأزمات التي تعرض لها الاقتصاد العالمي عام ٢٠٠٨ وأدت إلى معدلات غير مسبوقة من البطالة والانكماش في الأسواق المحلية والدولية، فإن الخروج منها قام إلى حد غير قليل على التعاون الذي جرى بين أعضاء المنظمة العشرين التي تضم الاقتصادات العشرين الأقوى في العالم. وحاليا أدت أزمة كورونا إلى نتائج عميقة، وبات النظام الاقتصادي العالمي أقرب إلى حالة من الكساد الرهيب الذي لم يتحقق منذ عام ١٩٢٩. المملكة العربية السعودية أصبحت عضوا مهما في المجموعة لقوة اقتصادها، ودورها المهم والمحوري في عالم النفط والطاقة، ولتمثيلها دائرة الدول العربية ومكانتها الخاصة في العالم الإسلامي. وتبعا للترتيبات الجارية لقمة الدول العشرين فإن المملكة استضافت دورة المجموعة وقامت بنشاط كبير في التعامل مع الأزمة العالمية الراهنة بالإضافة إلى قضايا أخرى تخص التعاون الدولي.
وتمثل قمة مجموعة العشرين بالرياض 2020 "2020 G20 Riyadh summit"الاجتماع الخامس عشر لمجموعة العشرين "G20"، والتي تنعقد في نوفمبر 2020 في مدينة الرياض السعودية، أول قمة لمجموعة العشرين تستضيفها السعودية، وثاني قمة لمجموعة العشرين تستضيفها منطقة الشرق الأوسط. ويرأس العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز قمة مجموعة العشرين الرياض 2020. وعلى أثر تسلم المملكة رئاسة القمة في 1 ديسمبر 2019؛ قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إن المملكة تلتزم خلال رئاستها المجموعة بمواصلة العمل الذي انطلق من أوساكا اليابانية؛ حيث انعقدت القمة السابقة بتعزيز التوافق العالمي، والتعاون مع شركاء المجموعة للتصدي لتحديات المستقبل. وهكذا تولت المملكة توجيه أعمال مجموعة العشرين تحت عنوان "اغتنام فرص القرن الحادي والعشرين للجميع"، والتي شكلت جزءا كبيرا من "رؤية 2030" للمملكة، وكانت المحاور الرئيسية الثلاث لرئاسة مجموعة العشرين في عام 2020 كالآتي:
- تمكين الناس: من خلال تهيئة الظروف التي يتمكن فيها الجميع، خاصة النساء والشباب، من العيش والعمل وتحقيق الازدهار.
- حماية الكوكب: من خلال تعزيز الجهود المشتركة لحماية الموارد العالمية.
- تشكيل آفاق جديدة: من خلال تبني استراتيجيات جريئة وطويلة المدى لمشاركة منافع الابتكار والتقدم التكنولوجي.
وهكذا ترأست المملكة مجموعة العشرين، وعملت موفقة على توحيد رؤى الاقتصادات القوية لمحاربة التداعيات الصحية والاقتصادية لجائحة كورونا. وخلال رئاسة المملكة المجموعة كانت المملكة الصوت الممثل للدول النامية والدولة الداعمة لكل مبادرات تخفيف أعباء الديون على الدول الفقيرة من أجل تمكينها لمواجهة الجائحة. كما يشهد لها التاريخ الدعم المالي السخي الذي قدمته المملكة لمنظمة الصحة العالمية لتعزيز قدراتها لخدمة الإنسانية.
رئاسة المملكة العربية السعودية الدورية لمجموعة الدول العشرين كان من الممكن أن تكون مجرد رئاسة دورية كما تقضي بذلك البروتوكولات الدولية، تقوم على الإجراءات وانتظار الموعد الرسمي لانعقاد قمة المجموعة؛ حيث يمكن التقاط الصور، ومناقشة بعض القضايا، وربما عبور بعض الجسور المقطوعة بين دول في العالم. ولكن ذلك كان ممكنا أن يحدث في الأوقات العادية، أما في الأوقات الاستثنائية فإن مواجهة تحديات أزمة كورونا وما تولد عنها من أخطار لكل دول العالم تقريبا لم يكن ممكنا أن تقوم الدول بمواجهتها منفردة، سواء بالنسبة للأخطار الصحية أو الأخطار الاقتصادية، الأولى تمس حياة الناس بما ترد به من أوجاع وتأخذ منه أرواحا، والثانية تمس مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة أيضا بما تشكله من أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة. لم يقدر في تاريخ البشرية المعاصر أن تواجه مثل هذا الاختبار الصعب؛ ولم تكن هناك نقطة بداية أفضل من مجموعة الدول العشرين لعكس الاتجاه المعاكس لمسيرة العولمة أو الاعتماد المتبادل العالمي. والحقيقة هي أن المملكة وقيادتها الحكيمة لم تنكص عن تحمل المسؤولية؛ ولكن كانت هناك مشكلة إجرائية لا يمكن تجاهلها، وهي أنه بات صعبا إن لم يكن مستحيلا أن يغادر رؤساء الدول دولهم، بينما هم تحت ضغوط الأزمة التي بمقتضاها يموت مواطنوها بعشرات الألوف يوميا. أكثر من ذلك أن عددا من قادة العالم سقطت هي نفسها فريسة المرض، والحقيقة أن الأرقام الخاصة بالأزمة باتت مفزعة، سواء كانت من المصابين أم من الوفيات أم من التكاليف الكلية لإغلاق أسواق الدول، وضعف التبادل التجاري فيما بينها.
ولحسن الحظ أنه بقدر ما كان العالم واقعا تحت تأثير المفاجأة بالأزمة الجائحة؛ فإن التطور التكنولوجي العالمي كان في مقدمة ما كان من حلول لمعضلاتها. وكانت السعودية جاهزة تكنولوجيا بقدر اقترابها من تكنولوجيات الثورة التكنولوجية أو ما يسمي G5 على وجه التحديد، ومن ثم طرحت عقد سلسلة من المؤتمرات الدولية العظمى التي شهدتها الدول العشرين عبر التكنولوجيا الافتراضية. وكانت نقطة البداية في ٢٦ مارس المنصرم عندما انعقدت قمة العشرين الاستثنائية برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لكي تشكل فصلا جديدا في تاريخ الأزمة بما وفره للتعاون الدولي من نتائج تبادل التجارب، والتعاون في إنتاج اللقاح والدواء للمرض، وتقديم العون للدول النامية والأكثر احتياجا. وقدمت السعودية عدة مبادرات خلال أعمال القمة هذه وما تبعها من مبادرات، أولها كان تقديم المملكة ٥٠٠ مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية، وثانيها دعوة المنظمات غير الحكومية لجمع ثمانية مليارات من الدولارات لتعزيز جهود مواجهة الجائحة. وفي أعقاب قمة العشرين توالت مؤتمرات المجموعة على مستويات وزراء المالية، والبنوك المركزية، والصحة، والسياحة، والطاقة، والتجارة والاستثمار. وعندما تنعقد القمة القادمة هذا الشهر فإن المملكة سوف تكون قد قدمت سجلا مشرفا لها وللعرب جميعا في عالم الدبلوماسية والسياسة في ظل أزمة عالمية مستحكمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة