قد يكون من المبكر الحديث عن مشروعٍ "كاظِميٍّ" إصلاحيٍّ متكامل، لكن إرهاصات هذا المشروع تتضح بصيغ متعددة.
السياسة التي ينتهجها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بعديها الداخلي والخارجي رسمت ملامح شخصية هذا الرجل وعكست إدراكَه العميق لمكنونات الواقع العراقي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن، والعقبات التي تعترض سبيل الانتقال به إلى مرحلة مشرقة بعد سنين من التقلبات والاضطرابات البنيوية التي ضربت أسسَ كيان الدولة ومؤسساتها وأهدرت مقدرات هائلة. انطلاقا من هذا الفهم الدقيق لواقعه؛ كان من الطبيعي أن يضع الكاظمي نصب عينيه معادلةً محكمةً تتعلق بمعضلة التداخل الكبير بين مكوّنات وطنه داخلياً، أيديولوجياً وحزبياً، وامتدادات هذه المكوّنات خارجياً، وعلاقاتها التبادلية في الوضع العراقي راهناً ومستقبلاً، وتأثيرها على سياقات عمله ومشروعه الذي حدد نقاطه في بيانه أمام مجلس النواب إبان تشكيله الحكومة العراقية التي أبصرت النور في عملية عسيرة جنّبت العراق مخاطر الاستعصاء وما يرتبه على واقعه المتأزم بفعل التناقضات والصراعات المذهبية والحزبية والتدخلات الخارجية ممثلةً بإيران التي لا تريد لبلاد الرشيد استردادَ وعيها الوطني وهويتها العربية، بل إبقاءها في غرفة الإنعاش تحت شروط وظروف ومقتضيات مصالحها وأجنداتها وحسب.
يبدو أن الكاظمي تلمّس الطريق نحو هذه المعادلة، ووضع الكثير من ركائزها ومتطلباتها، وقد تجلى أثرُها في طريقة تعاطيه مع مستجدات الداخل، الأمنية أولاً والاجتماعية ثانياً، والخارجية حين وسّع دائرةَ الحضور العراقي في عدد من عواصم القرار العربي مثل الرياض والقاهرة.
هل يستطيع الكاظمي إرساء بُنى دولة جديدة في ظل تعدد المشاريع التي تتزاحم على الساحة العراقية؟ هل يتمكن الكاظمي من نقل العراق من مرحلة ما قبل الدولة الذي رافق وشكَّل سمة الدولة العراقية منذ استقلال البلاد قبل عقود طويلة، إلى دولة العدالة وسيادة القانون، أي إلى دولة المواطنة التي تنتفي فيها الطوائف والمذاهب والعرقيات وتنصهر جميعها في بوتقة المؤسسة بمفهومها السياسي وبنيتها القانونية واستقلالية سلطاتها التشريعية والتنفيذية؟
تحولات كثيرة شهدتها الساحة العراقية منذ عام 2003 ولا تزال نذرُها تلوح في أفق المشهد العراقي دون تأطيرها ضمن سياق محدد من سياقات تلك التحولات، فالتداخل بين الاجتماعي والسياسي في المجتمع العراقي لم يعد أمراً يسيراً بسبب الفرز المذهبي والعرقي الصارخ الذي لوَّن خطوط التماس بينهما بالأحمر، بعد أن ظل لفترة طويلة غير قابل للبروز بصيغة علنية، فأنتج حالة من التشابك والخلط أسهمت في تقوقع القوى الحزبيةِ المذهبيةِ البُنى على ذاتها، ورسمت لكياناتها الحزبية إطاراً مذهبياً منغلقاً في وجه جميع نوافذ الفعل السياسي الوطني ما أدى إلى تفجر ظاهرة العنف الداخلي في بعض المحطات والأماكن.
عديدةٌ هي الرسائل التي تضمنتها آليات معالجة رئيس الوزراء للأحداث بطابعها الأمني الداخلي وكذلك طابعها السياسي على المستويين العربي والإقليمي، ولعل في موقفه المنحاز لمبدأ التظاهر وإصراره على وجوب احترام هذا الحق وحماية المتظاهرين السلميين وتبنيه مطالبهم المكفولة بنص الدستور ما يؤشر إلى قناعته بأن الوعي الوطني المطلوب للانتقال إلى ضفاف جديدة للعراق لا يبدو متاحاً في غرف ومجالس القوى الحزبية الحالية، وأن الرهان على وعي المنتفضين لا يشكل مغامرةً مجهولة النتائج؛ بل يمكن البناءُ عليه لتحطيم كثير من التابوهات الفكرية والشخصانية التي تمنع عجلة الإصلاح السياسي من الاستمرار في الدوران لحين الوصول إلى مبتغاها، خوفاً من فقدانهم مكتسباتهم وتضرر مصالحهم.
قد يكون من المبكر الحديث عن مشروعٍ "كاظِميٍّ" إصلاحيٍّ متكامل، لكن إرهاصات هذا المشروع تتضح بصيغ متعددة كترجمة لرؤى إصلاحية مستندة إلى محاولة مزاوجة بين الممكن والمتاح من جانب، وبين العقبات والتحديات من جانب آخر.
لا يبدي الكاظمي اهتماماً كبيراً بواقع الانقسامات الموجودة داخل الكتل الحزبية والنيابية وحتى القوى الأخرى التي تُعتبر جزءاً من إطار الوضع السياسي العام في العراق، وقد يحقق من خلال نهجه هذا نتائجَ تصب في دائرة خدمة رؤاه وتوجهاته الإصلاحية؛ حيث يتخذ مسافةً واضحة من الجميع، كي يستطيع فرضَ حالة إصلاحية تطال الجميع تحت سقف القانون ومصلحة العراق العليا؛ لأن تجارب من سبقوه ممن تبوأ منصب رئاسة الحكومة لم تثمر ولم تنجح في معالجة أو زحزحة أسباب الفساد وعوامله قيد أنملة، ولم تحقق أدنى درجات السلم والأمان للمجتمع العراقي برمته، بل حدث العكس في بعض المراحل بسبب الاصطفافات الحزبية والمذهبية التي تشكل أهم وأخطر المعوقات بوجه طي صفحة الماضي والانتقال نحو تسليك الطريق للولوج إلى عالم جديد مغاير يقوم على مبدأ العدالة والقانون والمواطنة.
ليس من شك في أن حجم التحديات الماثلة أمام الكاظمي كبيرة ومتشابكة، حيث تبدو للوهلة الأولى أصعب من أن تكون قابلة للحلحلة أو العلاج بسبب تعارض وتضارب وتناقض مصالح القوى الداخلية من جهة، وتماهي غالبية هذه القوى، ببناها السياسية والاجتماعية والمذهبية من جهة أخرى مع مشاريع ومصالح قوى خارجية، ومع محدودية الخيارات المتاحة يبقى الرهان على سلطة الدولة، بمفهومها السياسي ومدلولها السيادي، رهاناً موضوعياً في مواجهة عشرات المليشيات المسلحة والمنفلتة والتي ترتهن لمصالح بعيدةً كل البعد عن مصالح الدولة العراقية.
في دولة بحجم العراق؛ حضارةً وتاريخاً ومكانةً وإمكانات، حيث تتوازى فيها "الإمكانياتُ مع حجمِ الفساد"، وتتقاطعُ على جغرافيتِها -السياسية والاجتماعية والاقتصادية- مشاريعُ وأطماع إقليمية خطيرة ممثَّلةً بإيران، لن تكون الإرادةُ السياسية وحدها سبيلاً كافياً للملمة جراحها وصياغة هياكلها مجددا بمعايير عصرية؛ إنها في حاجة إلى مشروع متكامل ومتجانس بدعم عربي مباشر وصريح يوظف علاقات وإمكانيات جميع دوله لخدمته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة