الوضع العام في العراق مايزال مضطربا وبحاجة للمزيد من الجهود الحكومية الحثيثة لتقويمه وتحسين الظروف العامة للبلاد وللمواطنين العراقيين.
لم تهدأ الساحة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي حتى اليوم، فمنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وحتى هذه اللحظة يعاني العراق من أزمات سياسية وأمنيّة وإداريّة، فمن التبعية والولاءات الخارجية، إلى الطائفية والحروب الإرهابية، إلى الفساد المالي والإداري والسياسي، لتأتي حكومة "مصطفى الكاظمي" بولادة عسيرة في خضم الواقع الذي لا يشبه إلا بركاناً خامداً لا يعلم المرء متى يثور ليدمّر كلّ شيءٍ، وعلى الرغم من أنّ الكاظمي بما يمتلكه من نقاط قوةٍ منحته المزيّة في تولي رئاسة الحكومة العراقية في هكذا وضعٍ، فإنّه وكما يقول عن نفسه يتجرّع السمّ كلّ يومٍ من أيام ولايته المعدودة.
فدائماً وعند أي منقلبٍ سياسيٍّ يتوق له الشعبُ والساسة الوطنيون يواجه حروباً شرسةً على المستويات السياسية الداخلية ممن يرتبط وجوده بالفساد القائم على سدّة السلطة، أو بالولاء الخارجي الذي لا يرى فيه إلا طوق النجاة الذي ما إنْ تنفصمُ عراه لصالح الشعب والقوى الوطنية إلّا التفّ الحبل على عنقه مجرِّداً إياه من كلّ صفةٍ أو منصبٍ، بل وحتى من الحياةِ نفسها، لذلكَ فإنّ بوادر خطط وسياسة الكاظمي الوطنية لا يمكنُ لها أنْ تمرّ بسلاسةٍ ودون مواجهاتٍ، ولا سيّما ممن يريدون للعراق أنْ يبقى تحت الوِصايةِ الإيرانيِّة لما توفره لهم من غطاءٍ منسوجٍ بالطائفية والسلاح عبر ميليشيات لا ترى نفسها إلا قوةً ضاربةً فوق القانون من أحزاب وكتل سياسية وقادة ميليشيات.
أمّا عن السمّ فيتجرعه الكاظمي كل يوم على شكلِ تهديداتٍ تمسّ مستقبله السياسي، وهو الرجل الذي لا تاريخ له في السياسة، فهو بلا حزبٍ أو كتلةٍ سياسية تجعل منه ثقلاً على الساحة العراقية المتعددة الكتل المتشعبة الرؤى، أو حتى على شكل ضغوطاتٍ من قبل المتنفذين في الشارع العراقي بما يتبع لهم من ميليشياتٍ قادرةٍ على تحويل المشهدِ إلى العنف والحرب الأهليّة، بل ويمكن أنْ تتعدى ذلك إلى التهديد بالقتل وهو الذي يسمي نفسه "الشهيد الحيّ" .
لا شكّ بأنّ العراق اليوم يعيش مرحلة حساسةً ومنعطفاً خطيراً أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه منعطفٌ تاريخيّ؛ إما يعبر بالعراق من التبعية إلى الاستقلال التام وإعادة الهوية للعراق التي سلبت منه منذ ما يقارب العقدين، أو أنْ ينزلق العراق إلى الهاوية التي لا يحمد عقباها، لتجعل منه ذكرى عراق.
وأمام كل هذه التحديات والصعوبات التي تضغط على العراق ككلٍّ وعلى الحكومة العراقية بوجه التحديد، فليس للعراقيين اليوم إلا الاستمرار بالضغطِ الشعبيّ السلميّ، وعدم الانجرار لما يريده البعض من حرف مسار الشارع العراقي من المطالب المشروعة إلى العنف المدمر، كما لا بدّ للشارع بكل مكوناته بمنح الحكومة ورئيسها "الكاظمي" الوقت الكافي حتى تتجلى مظاهر الإصلاح، فمن باب الإنصاف لا بدّ من الاعتراف بأنّ الرجل يواجه معركة شرسةً وملفات معقدة على المستويين الداخلي والخارجي، كما يواجه تركةً كبيرةً من الفساد على كافة الأصعدة، وهذا ما لا يمكن أنْ ترى نتائجه أو حتى ملامحه على يد الكاظمي أو غيره في عامين أو حتى في أربعة، فلا بد من إنصاف الرجل وإعطائه بعض الوقت حتى تتبلور الرؤى والسياسة التي يحاول رسم خطوطها لتسم المشهد العراقيّ.
ولكن ليس معنى ذلك أنْ يصمت الشارع الذي لم يعد يثق بالوعود التي شبع منها على مرّ الزمن ولم يتغير شيءٌ إلا نحو الأسوأ، أو أنْ ينكفئ متخليّاً عن مطالبه المشروعة، بل على العكس يجبُ على الشارع أنْ يزيدَ من نشاطه بمشهدٍ حضاريٍّ وسلميٍّ، متحدياً الإغواء القائم على العنف أو عسكرة الحراك مهما تمادى أولئك الذين يحاولون العبث وقلب مسيرة المطالب المحقة، الأمر الذي يجعل من الشعب مراقباً ومقيّماً للوضع ومآلات المشهد السياسي، فإنْ كانت بوصلة الحكومة في الاتجاه الصحيح دَعَمَ وإن انحرفتْ قَوّمَ، كما على الكاظمي أنْ يكون على قدر المسؤولية مستمرّاً بما وعد به بخطى ثابتةً وحكمةٍ، مستفيداً من الزخم الشعبي ليعوّض بثقل الشارع العراقي المستاء من الفاسدين وولائهم لكل ما هب ودبّ عدا العراق ما ينقصه من كتلة سياسية أو تيّار حزبيٍّ، وبذلكَ يحصّنُ نفسه من الابتزاز والتهديد، فيتحول السمّ الذي يتجرعه من السم القاتل إلى الترياق والمناعة التي تشدّ عضده ليدير دفة السفينة إلى برّ الأمان وشاطئ الهوية والسيادة العراقية الوطنية التي طالَ أمد ضياعها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة