من أهم ما أفرزه عصر الإنترنت الذي نتعايش معه الآن، وبالذات وسائل التواصل الاجتماعي تحديدا، أنه ارتقى بالوعي الفردي لدى الجماهير
من أهم ما أفرزه عصر الإنترنت الذي نتعايش معه الآن، وبالذات وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً، أنه ارتقى بالوعي الفردي لدى الجماهير، وجعل الفرد أكثر قدرة على رؤية ما كان محجوباً عنه في الماضي بالشكل الذي مكَّنه من صناعة قناعاته بنفسه لا بتأثير من الغوغاء والجماهير من حوله. ما حصل، وما زال يحصل، في الساحتين العراقية واللبنانية هو في رأيي انعكاس جلي لهذا الوعي، الأمر الذي فاجأ النخب وجعلها (تتخبط) في التعامل مع هذا التطور غير المسبوق، وتظهر عجز قدراتها الكلاسيكية في توجيه الجماهير باستخدام الآليات التي كانت تمارسها في السابق.
التعصب الديني أو المذهبي لا يمكن إطلاقاً أن يجتمع مع مفاهيم الدولة المدنية، التي هي دولة العصر الحديث
ولعل ما حصل في السودان وتحقق أهدافه بشكل مبهر هو ذاته ما يتحقق الآن بالشكل نفسه تقريباً في لبنان والعراق، فمن الملاحظ الجلي أن الجماهير أصبحت (تصغي) إلى معلومات وتحليلات لا تستطيع السلطات ولا أحزابها أن تؤثر فيها، وتتحكم في توجيهها بما يخدم مصالحها، لذلك فإن السلطات في لبنان والعراق تبدو عاجزة في مخاطبة الشاب العشريني الذي أصبح يملك آلة تمكنه من أن يقول (لا) أو أن يقول (نعم)، بمعزل عما تقوله السلطات الحزبية أو الفئوية التي كانت تتحكم في قراراته.
وفي تقديري أن هذا (التغيُّر) النوعي في الوصول إلى المعلومة هو السبب الأول الذي أصاب (الطائفية) وعرَّاها وجعلها لم تعد تجد ردة الفعل التي كانت تحظى بها في مرحلة ما قبل ظاهرة التواصل الاجتماعي، ولأن النزعة الطائفية وتأجيجها هي التي كانت سائدة في الماضي وكان لها الأثر الأكبر في توجيه الجماهير، فقد استغلها السياسيون وبالذات رجال الدين منهم للإثراء غير المشروع، على الرغم من أن أغلب هؤلاء لا يهمهم وعي الفرد بقدر ما يهمهم بقاء نفوذهم، واستغلال (قدسيتهم) لتكريس نفوذهم، وتحويل أتباعهم كالأغنام التي تُساق إلى المذبح وهي تجهل مصيرها.
هذه الظاهرة للأسف لم تكن قصرا على العراقيين ولا اللبنانيين، وإنما تمتد تأثيراتها إلى بقية البلاد العربية، بمن فيهم نفوذ وتسلط المتشددين من أهل السنة، الذين يقابلون الملالي عند الشيعة، فلا يمكن لأي مراقب موضوعي إلا أن يلحظ بوضوح تراجع (المد الديني)، مقابل تنامي المد المدني، ليس فقط عند الطائفة الشيعية فحسب وإنما لدى الطائفة السنية أيضاً.
إيران -مثلاً- كانت طوال العقود الأربعة الماضية تقدم نفسها على أنها (حامية) الشيعة في العالم، وسخَّرت إمكاناتها الدبلوماسية والإعلامية لتكريس هذه المفاهيم في البيئات الشيعية، غير أن المفارقة هنا أن الإنسان الشيعي وليس السني هو من ثار على هذه المفاهيم التي اكتشف أنها (تضليلية)، وأن الوطن وثرواته هي أولاً للوطن ومواطنيه، وكان خطاب الولي الفقيه لا يعيره أي اهتمام، فتحولت إيران من كونها مناصرة (للمستضعفين) إلى أنها العدو الأول لهم، وليست الشعارات التي رفعها الثوار في الدولتين إلا دليل ناصع لما كنت أقول وها هو الواقع يثبته، فالتعصب الديني أو المذهبي لا يمكن إطلاقاً أن يجتمع مع مفاهيم الدولة المدنية، التي هي دولة العصر الحديث.
إلى اللقاء
نقلاً عن "الجزيرة السعودية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة