مع استمرار سير العمليات العسكرية الروسية، واستمرار الدعم الغربي لأوكرانيا والإعلان عن حزم العقوبات الأمريكية والضغط على الجانب الروسي بهدف محاصرته وتطويق خياراته، وعدم إعطائه الفرصة للإفلات من الدائرة الراهنة من الضغوطات الغربية.
فإن ثمة تساؤلات تطرح حول الخطوة التالية بصرف النظر عما يجري سياسيا، أو استراتيجيا من قبل كل الأطراف في الوقت الراهن بعد أن أدى كل طرف دوره سواء مجلس الأمن، أو الجمعية العامة وباقي القوي الغربية والتي تعمل بإجراءات فردية وجماعية، وهو الأمر الذي قد يفتح الباب على مصراعيه أمام كيفية التوصل لحلول ناجزة.
أولا: وضع الدولة الأوكرانية، وليس النظام السياسي نفسه سيكون محل اختبار والإشكالية ليست في بقاء النظام الأوكراني الراهن أو رحيله فلا يهم الغرب هذا بالأساس، وإنما الوضع الذي ستذهب إليه الحالة الأوكرانية، وهل ستكون على الحياد ، أم أنها ستبقي على وضعها في ظل رهانات صعبة على أن أوكرانيا كنموذج قابل للتكرار مع دول أخرى فما يعرف بدول الفضاء السوفيتي السابق ، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار في ظل ما يخطط له الجانب الروسي جيدا، وفي ظل مراجعات جديدة ستتم على أرض الواقع، ولا علاقة لها بصورة مداخلات التفاوض السياسي.
ثانيا: إن روسيا ما تزال تتمسك بإدارة الآلة العسكرية بهدف تغيير الوضع الأمني والاستراتيجي، وليس فقط الحصول على تعهدات أمنية حقيقية وكاملة، وستضع العديد من الضوابط سواء في أوكرانيا أو القرم الأمر الذي يعني أن روسيا لن تتنازل عن سقف مطالبها الكبرى بصرف النظر عما يجري من تطورات واستمرار الضغط الغربي من خلال منظومة العقوبات التي تحتاج إلى عدة أشهر للحكم عليها، وهو ما تدركه الولايات المتحدة والدول الغربية ، كما أن عدم الاقتراب من نظام سويفت من جانب، وكذلك من قطاعات الطاقة والغاز من جانب آخر سيكون مرتبط بما تؤكده المرحلة المقبلة من خيارات سيعمل عليها الجانب الروسي في المدى القصير والمتوسط إدراكا من أن الأمور تمضي لصالحه والجميع خاسر.
ثالثا: القضية ليست سقوط كييف، فالأمر أكبر من ذلك لمستقبل مناطق التماس والبلقان والقوقاز، أي أن الرسالة الروسية ستكون حاسمة في التفاوض والحوار مع أوكرانيا مع عدم الانتقال إلى الخطة "باء" إلا بعد أن تتم الأهداف الرئيسة من العمليات العسكرية لفرض شروط أقوي، ومن أعلى، وليس كما واضح من خلال لآليات تم اختبارها بالفعل في تجربة العقوبات.
رابعا: ستحتاج الولايات المتحدة لمراجعة سلسلة إجراءاتها الاقتصادية خاصة وأن الثنائي في إطار العلاقات مع الغرب من جانب وروسيا من جانب آخر أمر معقد للغاية ويحتاج إلى تعاملات جديدة ومنها أن دول حلف الناتو لن يكونوا على خط المراجعات في ظل مخاوف الدفاع عن أمن أوروبا في أقسي اختبار حقيقي لكل الأطراف التي تشارك في المهام الإستراتيجية حيث تتخوف الدول الغربية من عدم توافر الأمن المطلوب في أي خطوة لاحقة، كما أن الإجراءات الروسية في أوكرانيا سيكون لها انعكاساتها الكبرى، والتي تتعامل وفق إستراتيجية محكمة حاولت الولايات المتحدة منذ الرئيس بوش الابن التعامل معها دون تجارب واقعية.
خامسا: جاءت أزمة أوكرانيا لتؤكد على أن الخيارات الدفاعية الراهنة في حاجة لمراجعة سياسية وإستراتيجية جديدة بين الغرب وواشنطن التي لن تدخل في مواجهات عسكرية بالمعني العام دفاعا عن أحد إلا إذا دفع ثمن الدفاع الاستراتيجي في إطار النفقة والتكلفة والعائد والتي تتعامل بها الولايات المتحدة وتسعي لطرحها وإعادة تدويرها وهو ما سيدفع للتشكك فيما ستقدم عليه واشنطن في تسوية الأزمة الأوكرانية باعتبارها كاشفة لما يطرح الآن في هدوء وبدون إعلان شامل والرسالة المهمة في هذا السياق أن الولايات المتحدة تنظر إلى ما سيتم من حوارات وتفاوضات سياسية وأمنية بين أوكرانيا والغرب من جانب وروسيا من جانب آخر على أنه خطوة لما هو قادم.
سادسا: يحتاج الأمن الأوروبي إلى تعريف جديد بعد أن تكون روسيا قد رسمت خطوطها السياسية والأمنية والإستراتيجية لعمل عليها الجميع لاحقا حتى، ولو استمرت الأزمة الأوكرانية عدة أشهر وتوقف إطلاق النار وبقيت القوات الروسية على الأرض قبل التوصل لاختبارات سياسية حقيقية وثابتة، وليست متغيرة أما الثنائي الأمريكي الروسي فلا علاقة له بأي مسعي للتعامل على أرضية النووي أو اتفاقيات ضبط التسلح الثنائية والمستقرة منذ سنوات طويلة، وتتم في سياق أعلى، وعبر آليات محكمة ليس فيها مجال للخطأ والتلويح بالنووي في سياق إستراتيجية الردع أمر طبيعي للطرفين، ولكن الولايات المتحدة تعمل في اتجاهات الحد من المواجهة الكبرى إلى مواجهات صغرى ذات دلالات رمزية أكثر منها واقعية في ظل ثوابت التعامل بصرف النظر عن التخويف من إجراءات روسية تصعيدي ومحاولة موسكو محاصرة التحركات الأوروبية والأمريكية في آن خاصة وأن روسيا لديها بدائلها على المستوي الثنائي مع الولايات المتحدة، مع الرهان على التحرك في اتجاه صد العقوبات، والإجراءات المقابلة وقد اختبرت ذلك جيدا في إطار العمل بدون قيد زمني أو ممتد بل وفق بنك الأهداف التي تتحرك من خلاله واتساقا مع برنامج محدد سياسي واستراتيجي في اتجاه أوكرانيا وحلف الناتو والولايات المتحدة معا وفي نفس التوقيت مع العمل على تحسين شروط التفاوض على أرض الواقع ، وبناء إستراتيجية محكمة تلبي المتطلبات الأمنية للدولة الروسية والتي لن تقدم فيها أية تنازلات لا لواشنطن ولا لدول الناتو، فالأمن الروسي سيعلو على أي أمن آخر في ظل إدراك موسكو أن الولايات المتحدة تريد محاصرة المد الروسي في النطاقات الأوروبية، وفصل مجالات الأمن الأوروبي في محيطه الكبير عن الأمن الروسي، وهو الأهم بالنسبة للأطراف المعنية بأكملها.
سابعا: أن الإدراك الروسي - ووفق حساباته الكبرى سياسيا واستراتيجيا - سيعمل على مسارات متعددة أهمها الاستمرار في التفاوض الثنائي مع أوكرانيا مع عدم رفض أية صيغ للتفاوض الجماعي، وخاصة في إطار الناتو، وهو ما سيؤكد على أن روسيا تضع في تقديرها غلق الباب أمام أية تحولات حقيقية للأمن الاستراتيجي العام والخطوط الحمراء في العمل، وهو ما يؤكد على أن روسيا لديها تقييماتها المباشرة في ترتيبات أمنية لا تثير أية تداعيات سلبية على أمنها ومجالات تحركها، وفي ظل رهانات تؤكد على أن حلف الناتو ونتيجة لما سيجري من تحركات روسية وأمريكية قد يقدم على إجراء تغييرات هيكلية شاملة وهو ما سيفرض واقعا استراتيجيا استباقيا لروسيا ويتطلب منها الحذر في أي مراوغات غربية أو أمريكية تمس الأمن القومي الروسي، ومن ثم فإن روسيا ستستمر في توظيف المشهد الراهن لتحقيق مصالحها وهو ما يدرك أبعاده دول الناتو وواشنطن والتي ترغب في محاصرة الموقف الروسي، ودفعه إلى الإقدام على خطوات رد الفعل وهو ما لن يتم في ظل تصعيد روسي مخطط له، وساع إلى إطالة أمد المواجهة ودفع كافة الأطراف الأخرى لحافة الهاوية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة