طوال آخر أسبوعين امتلكت ناصية الأنباء ذكرى مرور عشرين عاما على أحداث 11 سبتمبر 2001، فجرت استعادة تفاصيل ما حدث ومَن كانوا في قلب السلطة الأمريكية.
ما كان مثيرا حول الآراء والشهادات، وحتى الأفلام التي استعادت الحدث، أنه جاء في وقت تبدو فيه القصة قد دارت دورة كاملة، وبات السؤال: هل وصلت إلى نهايتها أم أن هناك المزيد؟
وكما هو معروف، فإن الولايات المتحدة، وقبل أن تمسح الدموع على الضحايا، وتحت ضغوط رهيبة من الرأي العام الأمريكي، والكونجرس، ومؤسسات مختلفة، قامت بغزو أفغانستان وإسقاط "طالبان" من سدة الحكم، وأعيد ترتيب النظام السياسي الأفغاني كله على أسس "ديمقراطية".
ورغم ذلك كله، فإن الولايات المتحدة لم تفلح في القضاء على تنظيم "القاعدة"، الذي هاجم نيويورك وواشنطن، ومن ثم فقد اتجهت إلى العراق لعلها تكون أكثر قدرة على مقاومة الإرهاب، رافعة سببا للغزو هو "محاولة نظام صدام حسين امتلاك الأسلحة النووية".
وفي العراق أيضا لم تثبت التهمة الذرية، ولكن واشنطن وجدت في الأمر فرصة لنشر "النظام الديمقراطي" مع التعديلات المناسبة.
وبعد عشرين عاما، فإن النجاح كان محدودا بقتل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، ولم تصبح أفغانستان أو العراق ديمقراطية، وعادت "طالبان" إلى كابول مظفرة، وخرج أيمن الظواهري، زعيم القاعدة، لكي يعلن أنه والتنظيم أحياء ويرزقون.
بشكل ما، ورغم الاهتمام بالذكرى، فإنها كانت حاضرة بقوة، بينما تفاصيل الخروج من أفغانستان تتملك أجهزة الإعلام كلها، ومعها التساؤلات الخاصة بالولايات المتحدة نفسها، وعما إذا كانت سوف تظل على ثباتها في مكانة الدولة العظمى أم لا.
وسط هذا الصخب الإعلامي والسياسي، كانت تجري تطورات أخرى ذات بعد استراتيجي عالمي، ربما تنبئ بتحرك جديد للولايات المتحدة قد يكون انسحابا من الشرق الأوسط، أو ربما في الوقت نفسه تعيد التموضع مرة أخرى وسط حلفائها.
الإشارات الأولية تشي بأن واشنطن تعيد وضع نفسها مع مجموعات الدول، التي تراها تماثلها في القيم والغنى والأصول الغربية، ومن ثم كان الاهتمام الكبير بمجموعة الدول السبع، والتحالف الأطلنطي، ومؤخرا أكثر التركيز على البحار والتحالف الأنجلو-سكسوني، الذي يضم مع الولايات المتحدة كلا من المملكة المتحدة وأستراليا.
ظهر ذلك في قيام الولايات المتحدة بتسليح أستراليا بغواصات نووية، في إطار خطط "دفاعية" لحماية منطقة المحيطَين الهندي والباسيفيكي.
ومن المعلوم أن هناك تحالفا سياسيا آخر يضم أستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، "كويد"، ويتقاطع مع التطور السابق، الذي ترجمته الإحاطة بالصين أو تكوين نسق دفاعي يقوم بردع بكين في شرق وجنوب شرق آسيا، من اتخاذ خطوات تترجم قدراتها الاقتصادية المتصاعدة إلى خطوات استراتيجية تهيمن من خلالها على المنطقة، مستفيدة في ذلك من الخروج الأمريكي من أفغانستان.
التركيز هنا على المحيطين الهندي والباسيفيكي ربما يؤذن بتحولات هامة في العلاقات الدولية تأخذ مراكز الاهتمام والتأثير، وبالطبع التجارة، من أوروبا والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطي إلى الناحية الأخرى من العالم.
الذكرى العشرون لأحداث 11 سبتمبر الدامية لفتت الأنظار إلى كيفية تشكُّل العالم من جديد، خاصة أن هذه الأحداث أعقبتها جائحة كورونا، وما ترتب عليها من نتائج إثر الانتشار العالمي لها، أصابت الاقتصاد الدولي، وكيفية إعادة توزيع الثروة في العالم.
ولكن في الوقت نفسه، فإن حركة العالم لم تتوقف في اتجاهات أخرى ربما تكون أكثر تأثيرا وأطول عمرا فيما يتعلق بالمسيرة العالمية.
وفي الفكر الماركسي والجدلي عامة، فإن التطورات في قوى الإنتاج تشكل القوة المحركة للانتقال من عصر إلى آخر، وإذا كانت هناك أخبار مثيرة في الدنيا توازي تلك المتعلقة بالحرب ضد الإرهاب، أو إعادة ترتيب القوى العالمية، فإن الثورة التكنولوجية الرقمية الثالثة وتفاعلها مع التكنولوجيا الحيوية، التي تشكل الثورة الرابعة، لا بد لها -إن آجلا أو عاجلا- أن تؤثر على بنيان النظام الدولي.
وما حدث مؤخرا هو وجود إجماع على الصعود الجماعي للقوى الرقمية العالمية، ممثلة في شركات فاقت قيمتها السوقية مجتمعة تريليون دولار.
وقبل أسابيع قليلة، خرج جوزيف بيزوس، رئيس شركة أمازون، مع مجموعة من رفاقه إلى الفضاء الخارجي للدوران حول الكرة الأرضية.
وكذلك فعلت قبل أيام مجموعة من المسافرين الرواد عبر مركبة فضائية يحملها صاروخ "سبيس إكس" انطلقت من قاعدة في "كاب كانافيرال" بولاية فلوريدا الأمريكية.
هذه الرحلة الأخيرة تجاوزت البُعد، الذي توجد فيه المحطة الدولية المأهولة خارج الكوكب، وتعكس تنامي القدرات ذات الطبيعة الخاصة من حيث الملكية والتوجيه، وثانيا تحقق تراكمات كبيرة في مسيرة القدرة على السفر الجماعي إلى الفضاء، والقدرة أيضا على نقل أحمال كبيرة إلى الفضاء الخارجي، والآن بالتحديد إلى القمر.
وفيما يبدو أن هناك سباقا آنيا لامتلاك مركبات الأقمار الصناعية لتشغيلها بتجارة الإنترنت من خارج النطاق الأرضي، ومن ناحية بناء محطة فضائية على سطح القمر لتسهيل الأمر لرحلات أخرى إلى فضاء أكثر عمقا، وكل ذلك من خلال شركات خاصة.
مثل ذلك يمثل تحولا عميقا في مركب العلاقات الدولية، التي تقبع وسط إشكالات تاريخية قديمة من الصراع المماثل لأحداث 11 سبتمبر، وما أعقبها من تطورات دولية للحرب على الإرهاب، فإنها فيما يبدو تخطو خطوات جديدة لم تشهدها البشرية من قبل إلى الفضاء الخارجي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة