تراث "جحا" الإنساني قيمة فنية وثقافية عالمية
"جحا" الشخصية "الإنسانية" بامتياز، حمل التراث الذي تمحور حولها وأنتجها الوجدان الشعبي في صورة إبداع شفاهي أو مكتوب.
"يذهب الإنسان بخيره وشره.. ولكن تبقى الأساطير"، جملة عبقرية جسد بها الروائي العالمي الراحل نجيب محفوظ في روايته الملحمية (الحرافيش) تطلع الوجدان الجمعي إلى "الحكايات" و"الأساطير"، وإلى استلهام التراث الشعبي الذي تمحور حول شخصيات نُسجت حول نواة سيرتها الحقيقية الكثير من الحكايات والنوادر والمواقف التي حملت "رؤية للعالم" و"فلسفة إنسانية" و"أدبا خالدا" لا يفتر ولا يبهت أثره على مر الأعوام والقرون.
في الدورة الـ 16 من ملتقى الشارقة الدولي للراوي، والذي ينظمه معهد الشارقة للتراث على مدار ثلاثة أيام، تحضر الشخصية التراثية الشهيرة "جحا".. ليكون هو محور الجلسات البحثية والبرنامج الفكري المصاحب لفعاليات الملتقى، باعتباره "تراثا إنسانيا مشتركا". شخصية جحا ذات الأصل العربي، وفي وجوهه الأخرى التي تنتمي إلى ثقافات عدة "فارسية وتركية ومصرية.. وأجنبية" هي شخصية "إنسانية" بامتياز، حمل التراث الذي تمحور حولها وأنتجها الوجدان الشعبي في صورة إبداع شفاهي أو مكتوب قيما فنية وإنسانية خالدة استحقت، وتستحق، أن يجتمع لدراستها وإلقاء أوراق بحثية حولها باحثون ومتخصصون من بلدان وثقافات شتى وأن يحتفوا بهذه الشخصية التراثية الإنسانية عن جدارة واستحقاق.
أطروحات عدة، متفاوتة الرؤى والمناهج تناولت "جحا.. تراثا إنسانيا"، وفتحت هذه الدورة من ملتقى الشارقة للرواي الباب للباحثين والمعنيين بالتراث غير المادي للاحتفاء بشخصية جحا التراثية والتاريخية التي تقبع في الذاكرة الشعبية. ورغم أن شخصية جحا قد حظيت باهتمام كبير من دارسي الأدب الشعبي والفلكور والثقافة بشكل عام في النصف الثاني من القرن العشرين (خصص الكاتب الراحل عباس محمود العقاد كتابا كاملا عنه بعنوان جحا الضاحك المضحك)، فإن أوراقا بحثية ألقيت في اليومين الأول والثاني من الملتقى أضاءت مساحات مُعتمة في تاريخ هذه الشخصية، وأخرى حللت النتاج الفني المرتبط بها، وثالثة سعت لتقديم رؤى وتحليلات تتميز بالجدة والرصانة معا.
وعبر عدد من الأوراق البحثية الرصينة التي تتناول تلك الشخصية من نواحي عدة، منها ما هو "رمزي" و"فني" وصولاً إلى البعد "التاريخي"، وكيفية حضور جحا وتجسده في الفلكلور العربي بالتعريج على توظيفها الفني المعاصر من خلال استلهام صور جحا المختلفة ووجوهه المتعددة في الثقافات الإنسانية، جاءت الندوات الفكرية والمداخلات التعقيبية لتناقش شخصية "جحا في التراث والتاريخ".
في الجلسة الأولى ناقش د.عمرو منير، عضو هيئة تدريس بجامعتي أم القرى بمكة المكرمة، وجامعة جنوب الوادي بمصر، أطروحة حول "جحا في التاريخ العربي بين أسبقية الظهور وأولوية الإبداع" والتي كشفت عن أسبقية ظهور جحا في المنطقة العربية قبل أي من المجتمعات الأخرى، والتي كان لها كبير الأثر على الثقافات الشعبية المحلية وصولاً إلى تأثيرها الإقليمي والعالمي، لتمسي هذه الشخصية رمزاً مشتركاً بين المجتمعات، ليظهر من بعد جحا العربي، جحا الفارسي، والتركي، والفرنسي، والألماني، والإيطالي، والإسباني، والآسيوي، والأفريقي، ولتخلص الورقة إلى أن على كل جماعة أن تحتفظ بـ"جُحاها"، وتنقب عن مكامن الإبداع فيه، وتستنهض هذه المكامن لحفظ التراث الإنساني الثري.
من أبرز الأوراق البحثية التي ألقيت خلال اليومين، ورقة الباحثةوالناقدة المغربية زهور كرام والتي تؤطر فيها لموضوع "جحا وبلاغة المحكي المتوارث"، وفيها ناقشت كرام مسألة جحا الشخص والصوت، وتأصيله لفكرة المشترك الإنساني عبر مرور العصور بالتعرض للتفاعل الحادث بين الجدي والهزل، والواقعي والخيالي، وما تركه من تراث محكي شكل خطاباً بلاغياً من حيث التركيب والمحتوى، لتجيب كرام في ورقتها عن تساؤلات دارت حول خصائص خطاب جحا، وكيفية إنتاج وعي معرفي من خلال شخصية جحا، وكيف يمكن أستثمار محكي جحا معرفياً من خلال تحليل خطابه.
وقدم د.منى بونعامة، الباحث المتخصص في التاريخ والتراث العربي، ورقة بعنوان "البعد التاريخي لشخصية جحا"، واستعرض فيها العديد من المصادر التاريخية التي جاءت على ذكر حجا مثل كتاب "التاريخ الكبير" للبخاري عام 194هـ، و"القول في البغال" للجاحظ عام 255هـ، متناولاً أبرز الاختلافات بين المصادر التاريخية والتراثية، والتي جاء على رأسها الاختلاف حول اسم جحا العربي، فقيل تارة أن اسم جحا الأصلي هو "أبو الغصن دجين بن ثابت" وتارة أخرى "نوح"، وقد سعت هذه الورقة من خلال الطرح التاريخي إلى تأصيل شخصية جحا، وكشف النقاب عن أبرز ملامحه وميزاته استناداً إلى المصادر القديمة.
في السياق، أجرت "العين" مقابلات خاصة مع عدد من الباحثين المشاركين في المؤتمر، منهم الباحث والأكاديمي الدكتور ألماز أبراييف من قيرغيزستان، والذي يشارك بورقة بحثية عنوانها "جحا بين الواقع التاريخي واستلهام الرمز". يقول إبراييف في حديث خاص لـ "بوابة العين الإخبارية" إنه "ليس هناك شخصية تراثية فكاهية اتفق الجميع عليها منذ أزمنة بعيدة وحتى وقتنا الحاضر سوى شخصية جحا من حيث الفكاهة والتندر والسخرية وقصص الخداع"، ويلفت إلى أن "الشخصية قد نالت على مر السنين اهتماماً في مختلف الثقافات فكانت معيناً لا ينضب للأدباء فتارة يسجلون من خلالها مواقفهم السياسية والاجتماعية الساخرة في زمان بات الجهر بالآراء مباشرة ذا ضرر بالغ علي صاحبه".
في ما سعت الباحثة أمينة جعفر الفردان رئيس تحرير مجلة الموروث الشعبي الإلكترونية البحرينية، في ورقتها التي حملت عنوان "جحا الرمز بين التاريخ والأدب الشعبي" إلى "إزالة الغموض الذي أُحيط بشخصية جحا" وذلك "من خلال ما ورد في الكتب والمراجع العلمية المتاحة، والحقيقة أن جحا ورمزية حضوره في التراث العربي، والمحلي بشكل خاص يجعلنا نريد أن نعرف الكثير عن تلك الشخصية الملتبسة أو الضبابية التي لا تكاد تبين من كل هذا التداخل التاريخي الذي أتخم وأثر على رؤية الباحث العربي المهتم بتراثه الثقافي".
وتشير الفردان إلى تركيزها على "ملامح الظهور ومكامن التوظيف لشخصية جحا في الإبداع الجمعي، وارتباط شخصيته بحرية النقد والسخرية، ثم تجليات هذه الشخصية في التراث البحريني، وأبرز نوادره التي شاعت وذاعت في وطننا والتي سارت مسرى المثل، وهي: "وين أذنيك ياجحا، مسمار جحا، جحا وحماره".
aXA6IDMuMTM4LjEzNS4yMDEg جزيرة ام اند امز