يتأكد الطابع الديمقراطي للعملية السياسية التونسية، ففي الانتخابات الديمقراطية تكون النتائج عادة مفتوحة ولا يمكن الجزم بها مقدما
جاءت نتائج المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة صدمة لأغلب المراقبين والمُحللين الذين طرحوا توقعات مُختلفة للفائزين المُحتملين في هذه الجولة, وبددت تصورات عديدة بشأن توازن القوى والأحزاب السياسية في البلاد والثقل النسبي لكل منها.
هذه النتائج تؤكد الطابع الديمقراطي لها، فمن المُتفق عليه أنه في الانتخابات الديمقراطية فإن النتائج تكون عادة مفتوحة ولا يُمكن الجزم بها مُقدما. فإذا كانت تلك النتيجة لم تكن متوقعة فإن هذا أمرُ يؤكد المناخ الديمُقراطي الذي أُجريت فيه هذه الانتخابات, ونزاهة الإجراءات التي طُبقت فيها, وأنها تُعبر فعلًا عن اختيارات الناخبين في صناديق الانتخاب، لذلك فهذه النتائج تستدعي التأمُل والتفكير وإبراز الدلالات العميقة لها ليس فقط على مستوى تونس ولكن أيضا على مستوى الدول العربية.
أول دلالة للنتائج هي تشتت أصوات الناخبين وتوزعها مما أدى إلى أن الفائز الأول حصل على أقل من 20% من الأصوات، وأن أربعة مرشحين فقط حصلوا على أكثر من 10% من الأصوات, وأن 19 مُرشحا حصلوا على أقل من 5% من الأصوات كان من بينهم: منصف المرزوقي الذي تولى رئاسة الجمهورية خلال الفترة 2011-2014, والمهدي جمعة الذي تولى منصب رئيس الوزراء عامي 2014-2015. بما يعني أن الناخب التونسي أعطى صوته لمُرشحين من خارج "الطبقة السياسية" أو "النخبة الحاكمة" التي مارست العمل السياسي وتصدرت المشهد العام بعد 2010، لم يُعط الناخب التونسي صوته لشخصيات عامة أكثر شُهرة شغلت مناصب عُليا في تونس مثل: رئاسة الجمهورية, ورئاسة الوزراء, وكرسي الوزارة, وفضل عليهم أستاذا جامعيا "قيس سعيد" في مجال القانون الدستوري الذي قام بالتدريس في جامعة سوسة, ورجُل أعمال "نبيل القروي" وهو صاحب محطة تلفزيون نسمة, ومُحتجز على ذمة التحقيق في قضايا مالية.
سوف يظلُ تفسير نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التونسية مثارًا للتحليل, ويظلُ طرفا الجولة الثانية رهن قرار القضاء. فهل يكون ذلك مع بقاء "نبيل القروي" في السجن أم يُسمح له بإفراج مؤقت ومشروط بفترة الحملة الانتخابية التي من الأرجح أن تنتهي يوم 6 أكتوبر المقبل؟
الأول بسبب إعطائه مكافحة الفساد أولوية أولى ورفضه قبول التمويل الحكومي، وأنه أنفق على حملته المتواضعة من ماله الخاص، وأن تصريحاته اتسمت بالصراحة وعدم المجاملة فأعلن عن رغبته في التقدم بطلب لتعديل الدستور، وأنه يرفضُ المساواة بين المرأة والرجُل في الميراث. والثاني لاعتبارات سوف أعرضها تاليا.
هذا الاتجاه للناخب التونسي ليس فريدا بل تكرر من قبل في كثير من الدول الديمقراطية التي انتشر بين الناخبين فيها الشعور بـ"عدم الثقة" في رجال السياسة وازدياد الاعتقاد بأنهم يعملون لمصالحهم الشخصية, ومنفصلون عن مشاكل عموم الناس, وغير قادرين على استيعاب القضايا الجديدة في المجتمع وإدراجها في برامجهم الحزبية. ونتج عن هذا الاعتقاد عزوف الشباب عن الانضمام في الأحزاب السياسية وانخراطهم بدلًا من ذلك في هيئات المُجتمع المدني والحركات الاجتماعية.
كان هذا الوجه هو الأساس الذي استند إليه دونالد ترامب في حملته الرئاسية الأولى وانتقاده المؤسسة الحاكمة واستخدامه الشعارات والعبارات الشعبوية في مخاطبته الناخبين الأمريكيين، وكان هو الأساس أيضا في صعود تيارات اليمين المحافظ في عديد من الدول الأوروبية.
يُمكن تفسير عدم الثقة في الطبقة السياسية أو النخبة الحاكمة التونسية بالشعور بخيبة الأمل فيما تحقق في تونس منذ اندلاع أحداث ثورة الياسمين في ديسمبر 2010، كان هدف الثورة هو تغيير نظام الحكم السُلطوي واستبداله بدستور وقوانين ومؤسسات ديمقراطية منتخبة، ولكن هذا التغيير لم يكن هدفا في حد ذاته من وجهة نظر أغلبية الناس، بل إنه الوسيلة لمكافحة الفساد وجعل نظام الحكم أكثر قُربا إلى المواطنين وأكثر تعبيرا عن مطالبهم واحتياجاتهم وأكثر قُدرة على الوفاء بآمالهم وتطلعاتهم، وهو ما لم يحدث.
أصبح النظام أكثر ديمقراطية من حيث القواعد والإجراءات, ولكنه فتح الباب للصراعات والمناورات والانشقاقات الحزبية والشخصية, التي أدت في نهاية الأمر إلى عدم تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي للناس، فلم تنخفض نسب البطالة التي وصلت في النصف الأول من عام 2019 إلى 15.3%, ترتفع بين الشباب في الشريحة العمرية 15-24 سنة إلى 34.4%, وارتفعت أسعار المواد الغذائية في يوليو 2019 بنسبة 6.5% مُقارنة بالفترة نفسها في عام 2018. وظهر ذلك في التصريحات التي أدلى بها أغلبية الشباب قبل الانتخابات والتي أفصحت عن اعتقادهم بأن الثورة التي خرجوا من أجلها من تسع سنوات مضت لم تحقق أهدافها ولم تُغير واقعهم الاجتماعي. ورُبما يُفسر ذلك من ناحية تراجع نسبة التصويت في هذه الانتخابات من 64% في عام2014 إلى 49% في انتخابات 2019 من ناحية وتوجيه الناخبين أصواتهم لشخصيات من خارج الطبقة السياسية أي أنه "تصويت عقابي" من ناحية أخرى. فالناخبون يُعاقبون أعضاء هذه الطبقة أو النخبة بسبب تركيزهم على خلافاتهم وتناحراتهم وانتقال بعضهم من حزب إلى آخر لأسباب منفعية لا صلة للمبادئ بها.
دلالة أُخرى لهذه الانتخابات هي اهتزاز ما كان يُعتبر كتلًا انتخابية تأتمرُ بتوجهات الحزب وتصوت لمرشحيه يظهر هذا بوضوح في النسبة التي حصل عليها المرشح "عبدالفتاح مورو" نائب رئيس حزب النهضة, ونائب أول لرئيس مجلس النواب خلال الفترة 2014-2019 والذي اعتبر كثير من المتابعين للشأن التونسي أنه سوف يكون أحد طرفي الجولة الثانية من الانتخابات. ولكنه احتل المركز الثالث، يكون فهم ذلك بأحد تفسيرين: إما أن كتلة حزب النهضة التي تعودت من قبل على الطاعة والالتزام بمرشح الحزب قد بدأت في التفكك خاصة أنه كان هناك مُرشحون آخرون من داخل الحزب أو مستقلون قريبون من توجهات الحزب وأفكاره وإن كانوا ليسوا أعضاء حركيين فيه, وإما أن الحزب لم يطلب من أعضائه دعم المرشح "مورو" وأن ترشحه كان خُطوة لإنهاء حياته السياسية.
وتبقى دلالة أن يكون الفائز بالمركز الثاني في المحبس طوال فترة الحملة الانتخابية التي أدارتها زوجته نيابة عنه، صوت له الناخب التونسي رُبما تعاطُفًا معه, ولشعوره بأن صدور قرار احتجازه في هذا الوقت هو قرار تعسفي كانت له دوافعه السياسية وغرضه تعويق فُرصته في الانتخابات أو رُبما بسبب أن له نشاطا كبيرا في المجال الأهلي الخيري مما أدى إلى ارتباط مصالح أعداد كبيرة من الناس معه. وأيًا كان الأمر, فإن القضاء التونسي تواجهه مُشكلة صعبة ليس لها سوابق، فالهيئة العُليا المُستقلة للانتخابات نفضت يدها من هذا الموضوع باعتبار أنه أمر قضائي لا ينبغي لأحد التدخُل فيه وأنه في حال عدم صدور قرار من القضاء بهذا الشأن فإن الأمر سوف يبقى على حاله ويستمر القروي في خوض الجولة الثانية من الانتخابات.
ولا أعرف عن سابقة سياسية أو قانونية مماثلة, وأقرب الأمثلة إلى الذهن هي انتخاب كوامي نكروما -رئيس حزب المؤتمر الشعبي في غانا- والذي سجن في عام 1950 بواسطة السلطات الاستعمارية البريطانية لنشاطه في تنظيم المظاهرات المطالبة بالحكم الذاتي في البلاد وصدر حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات. وفي عام 1952 رشح نفسه في الانتخابات النيابية عن دائرة أكرا -العاصمة- ونجح فيها وحصل حزبه على أغلبية مقاعد المجلس النيابي فأفرجت عنه السلطات البريطانية وتولى رئاسة الوزراء، واستمر في نضاله حتى حصول غانا على الاستقلال في عام 1960 فانتُخب أول رئيس للجمهورية، وهذا المثل لا يفيدنا كثيرا فقد كانت السلطات البريطانية هي التي سجنته ابتداء وسمحت له بالترشُح ثُم أفرجت عنه بهدف تهدئة الأوضاع السياسية واحتواء المعارضة. المثل الآخر الذي قد يأتي إلى الذهن هو إفراج سُلطات جنوب أفريقيا عن نيلسون مانديلا في عام 1990 ليشغل منصب رئيس حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ويقود المفاوضات مع الرئيس دي كليرك رئيس الحكومة لإلغاء نظام الفصل العنصري ثُم انتخابه رئيسا للجمهورية في 1994, وهو مثل يختلف أيضا عن وضع نبيل القروي، وأشار بعض الظُرفاء إلى سابقة سيدنا يوسف -عليه السلام- الذي خرج من السجن ليتولى إدارة مالية مصر بعد أن نجح في تأويل أحلام حاكم مصر والتي فشل الآخرون في تفسيرها, وهي أيضا واقعة مختلفة عما نحن بصدده.
سوف يظلُ تفسير نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التونسية مثارا للتحليل, ويظلُ طرفا الجولة الثانية رهن قرار القضاء، فهل يكون ذلك مع بقاء "نبيل القروي" في السجن أم يُسمح له بإفراج مؤقت ومشروط بفترة الحملة الانتخابية التي من الأرجح أن تنتهى يوم 6 أكتوبر المقبل؟ وماذا إذا فاز القروي في هذه الجولة؟ فهل تؤدي الحصانة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية إلى إسقاط التهم الموجهة إليه, وهي تُهم مالية وليست سياسية؟ لقد صدق توقع السيد إبراهيم بوصلاح مساعد الوكيل العام لمحكمة الاستئناف التونسية في تصريحه يوم 13 سبتمبر الماضي بأن قضية القروي "هي القضية الأولى من نوعها في تونس يجب أن أقول هنا إننا أمام فراغ في حال فوزه, سنكون في مأزق قانوني".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة