إذا كان الدكتور عبد الله محارب، مدير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مدعًوا إلى شيء، فهو مدعو إلى أمرين؛ أولهما أن يراجع عبارة محددة جاءت على لسان جيم يونغ كيم، رئيس البنك الدولي، أثناء كلامه أمام «قمة الحكومات» التي عقدت في دبي منتصف الشهر الحا
إذا كان الدكتور عبد الله محارب، مدير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مدعًوا إلى شيء، فهو مدعو إلى أمرين؛ أولهما أن يراجع عبارة محددة جاءت على لسان جيم يونغ كيم، رئيس البنك الدولي، أثناء كلامه أمام «قمة الحكومات» التي عقدت في دبي منتصف الشهر الحالي... والأمر الثاني أن يفسر العبارة لنا!
إنني أقصد الدكتور محارب على وجه التحديد، لأنه يرأس المنظمة الكبرى المعنية بالتعليم عربًيا، ولأنها من مقرها في تونس تعمل على ثلاثة ملفات، لا رابع لها، كما هو واضح من اسمها، ثم إن التعليم هو ملفها الأول، على حسب ما يشير إليه الاسم أي ًضا، لا الملف الأوسط، ولا الأخير!
كان السيد جيم يتحدث أمام القمة التي تفاجئ متابعيها، وأنا واحد منهم، بالجديد من الأفكار في كل عام، فقال ما معناه إن نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم في المنطقة العربية، كبيرة، إذا ما قورنت بنسب إنفاق بلاد كثيرة في العالم على التعليم، ومع ذلك، فإن الحصيلة من وراء هذا الإنفاق، ليست هي الحصيلة المرتقبة، ولا المنتظرة، ولا هي الحصيلة محل الطموح والرضا!
طبًعا يبدو من الوهلة الأولى أن رئيس البنك الدولي وقع في خطأ التعميم، لأن المنطقة العربية لا يمكن أن تكون كلها على نحو ما قال؛ إذ الطبيعي أن تكون فيها دول أنفقت على تعليم أبنائها، ثم حصدت على قدر الإنفاق، وأن تكون هناك في المقابل دول أنفقت أي ًضا، ثم، لأمر ما، لم تحصد... وربما يكون الحرج وحده هو الذي منع الرجل من أن يسمي الدول بأسمائها في هذا المقام!
لقد عشنا نعرف أن الدول التي تنفق على تعليمها، هي الدول صاحبة الحظ الأوفر في المكانة، لا المكان فقط، بين الأمم، فإذا بالسيد جيم يأتي ليهدم هذه النظرة تقريًبا، ويدعو المؤمنين بها إلى أن يراجعوا أنفسهم، ثم فقط، لهانت المسألة، ولكنه إنفاق، ثم شيء آخر إلى جوار الإنفاق، لا يقل يلتفتوا إلى أن الأمر لو كان إنفاقً عنه أهمية، وربما تجاوزه في مقام الأولويات!
وإذا كانت هناك دولة عربية مدعوة إلى أن تراجع وضع الإنفاق الحكومي على التعليم فيها، بعد كلام جيم يونغ كيم، فهي مصر؛ لا لشيء، إلا لأن دستورها الجديد الذي جرى إقراره في أول 2014 ،يفرض، في ثلاث مواد من مواده، إنفاق سبعة في المائة من الناتج القومي الإجمالي على التعليم والبحث العلمي، سنوًيا، وهي نسبة مرتفعة ج ًدا، إذا ما عرفنا أن النسبة التي كان رئيس البنك الدولي يصفها بأنها كبيرة، هي خمسة في المائة!
إنني أذكر تماًما أن أحد وزراء التربية والتعليم في القاهرة، فيما قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011 ،كان قد أعلن يوًما أنه أعاد إلى خزانة الدولة جزًءا من ميزانية وزارته فاض عن حاجتها للإنفاق، وحين يحدث هذا،فليس له من معنى سوى أن الإنفاق بوجه عام، وفي التعليم بشكل خاص، إذا لم تحكمه فلسفة، وتقوم وراءه عشوائًيا غير مضمون الجدوى!
رؤية، يصبح إنفاقً
وفي ماليزيا، فإن مهاتير محمد تولى السلطة في مطلع ثمانينات القرن الماضي، فكان أول ما خطط له، ثم شرع على الفور في تنفيذه، هو أن يكون التعليم في بلاده أولويته الأولى، غير أنه، فيما بدا من نتائج سياسته لاحًقا ومن طبيعة حصيلتها، كان على وعي كبير بأهمية عبارة جيم يونغ كيم، دون أن يسمعها منه طبًعا... كان على وعي كامل بها لأنه كشف فيما بعد، عندما تحدث عن أسباب تقدم بلده على يديه، أنه أعطى، وأعطاه مع الإنفاق اهتماًما ورعاية خاصة، بما يعني أن كل مبلغ أنفقه على تعليم مواطنيه كان التعليم إنفاقً في مكانه بالضبط، وكان في الوقت ذاته أمامه هدف كإنفاق يسعى إليه!
إننا أمام وضع تعليمي غريب للغاية في كثير من عواصم العرب... وضع يقول: إن هذه العواصم لم تق ّصر في، غير أنها كانت مدعوة إلى أن تسأل نفسها منذ أول قرش تنفقه، ليس عن وإنفاقً
شيء إزاء تعليمها صرفً سبب الإنفاق، وإنما عن الهدف الذي من أجله تنفق، ولو حدث هذا منها لكان الحصاد على أرضها في سوق العمل على قدر إنفاقها، وما كان له أب ًدا أن يكون أقل!
إنني أع ّد عبارة رئيس البنك الدولي في «قمة حكومات» دبي، صيحة مستوجبة الإنصات منا، أكثر منها عبارة تقال ثم ينساها صاحبها بعد انتهاء أعمال المناسبة التي قيلت فيها، ونمر نحن أمامها مرور العابرين، لأنها تعني بكل لغة مفهومة بيننا، أن أسواق العمل عندنا في ناحية؛ وجامعاتنا ومدارسنا الفنية في ناحيةأخرى، وأن ما نطالعه بين فترة وفترة عن أن في سوق العمل وظائف لا تجد من يملأها من خريجينا، ليس فيه أي نوع من المبالغة، وقد كنت سمعت من صاحب عمل قبل ثلاثة أعوام، أن عنده مواقع ووظائف كثيرة شاغرة، وأنه كلما دعا باحثين عن عمل إليها، اكتشف أنهم يحملون شهادات جامعية، وأنهم مع ذلك غير مؤهلين للوظيفة المتاحة لديه، وكذلك لدى سواه من أصحاب الأعمال على مستوى القطاع الخاص كله!
سمعت هذا منه، فلم أصدقه في وقته، واليوم أصدقه، وأقول إن الدول العربية التي يقصدها السيد جيم بعبارته إذا لم تراجع فلسفة إنفاقها على تعليمها، فستكون كمن استقدم محامًيا يترافع في قضية، فخسر الأتعاب التي تقاضاها المحامي... ومعها القضية.
*نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة