العمل دون خطة فوضى لا تنتهي، والخطة دون عمل أحلام يقظة لا تتحقق، والغايات لا بد لها من مسارات واضحة
العمل دون خطة فوضى لا تنتهي، والخطة دون عمل أحلام يقظة لا تتحقق، والغايات لا بد لها من مسارات واضحة، وتلك المسارات بدورها تحتاج تضحيات لا تتوقف، وحماس لا ينطفئ، وعندما يكون هدف الشخص مسؤولية الشخص وحده، فإنّ هدف الأُمّة هو مسؤولية الأُمّة كلها!
أثلج صدري منذ أيام وأنا أقلب الصحيفة، مبادرة اسمها «نعم للعمل»، أطلقها مركز أبوظبي للتعليم والتدريب التقني والمهني، لتدريب مجموعة من الطلبة المواطنين في قطاعي تجارة التجزئة والمخابز، وما سرّني أكثر، دعم أولياء أمور أولئك الطلبة لمزاولة أبنائهم لمهن لم تكن مطروقة من قَبْل، مِن قِبَل الشباب المواطن، وهي نقطة مفصلية من أجل تغيير الثقافة المجتمعية، التي حصل لها مع بدايات مرحلة الطفرة الحضارية المصاحبة لظهور النفط، حالة عزوف وامتعاض من مزاولة الحرف والمهن الخدمية، وحتى تتغيّر، فهي بحاجة لمثل هذه المبادرات وتكرارها لمدة طويلة، كافية لخلق وترسيخ النمط المطلوب لثقافة المجتمع.
المركز يحاول مشكوراً، إيصال صورة حية ودليل ملموس بأنّ المواطن قادر على أداء هذه الوظائف المهنية، والتي تحتكرها العمالة الوافدة، لكن، وحتى لا نطالب المركز بما لا يدخل ضمن اختصاصه، فإنّ منح فرص التوظيف ليس من صلاحياته، وليس بجديد القولُ بأنّ القطاع الخاص ما زال غير متحمّل لمسؤولياته تجاه المجتمع، وما يتم من مبادرات بين الحين والآخر، لا تعدو أن تكون مجرد حبوب مسكنة لا تحل مشكلة بطالة الشباب، ولا تتعامل معها بجديّة، فالمهم لدى الشريحة الكبرى من رجال الأعمال، هو حسابات الأرباح والخسائر «المالية» الشخصية، أمّا أرباح وخسائر المجتمع، فليست من ضمن اهتماماتهم، وكما يقول مثلنا الشعبي «إذا سلمت أنا وناقتي، ما عليّ من رفاقتي»!
بعض المؤسسات الحكومية، تظهر في النقل «الخفي» للوافدين من هيكلها الوظيفي الرسمي، إلى نظام العقود الخاصة، حتى تبدو نسب التوطين عالية، هذا التلاعب يرسل رسائل مزعجة، بأن القطاع الحكومي لا يستطيع توطين كل وظائفه
البطالة ليست سحابة صيف ستنقشع بعد فترة، وليست مشكلة آنية بالإمكان تجاهلها أو انتظار أن تحلّ نفسها بنفسها، بل هي أشبه بكرة الثلج المتدحرجة، التي لا يزيدها مرور الوقت إلا كِبَراً في الحجم وسرعة في الحركة، ما يفقد من يواجهها الحلول إن تأخر في معالجتها مبكراً، ومنذ الأزمة الاقتصادية، والعالم أجمع، وبالأخص العالم الأول، يعاني من معدلات البطالة المرتفعة، وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الكبير، وبُعْدها الأمني المقلق.
إنّ البطالة ليست مشكلة محدودة الأثر، بل هي المدخل الذي تبحث عنه باستماتة الأحزاب الطامحة للسلطة، وهو الوقود الذي تقتات به الجماعات الإرهابية، من أجل تهييج واستثارة الشباب العاطل، والذي يعاني من انسداد المستقبل أمامه، وهو الأمر الذي رأينا كيف لعبت على أوتاره تلك الجماعات والأحزاب في العالم العربي، خلال أكذوبة الربيع العربي الشيطانية، ما يجعل التعامل معها مطلباً رئيساً لا يجوز التلكؤ معه.
الحكومة تعمل جاهدة لتوفير فرص العمل لجميع أبنائها، ولكن لا يمكن أن يُغطي الشاغر حالياً من وظائف المؤسسات الحكومية تلك الأعداد المتزايدة من الباحثين عن عمل، والتي يتوقع أن تقارب 150 ألفاً حتى عام 2020، بمعدّل سنوي يُقدَّر بـ 15 ألفاً كمتوسط خلال الفترة من 2011 – 2020، ثم يرتفع هذا الرقم إلى 20 ألفاً سنوياً خلال 2021- 2030، وهي أرقام كبيرة لا يمكن استيعابها في المؤسسات الخدمية بممارساتها الحالية، والتي تحمل علامات استفهام كبيرة بدورها، وهي أيضاً أرقام لن تصل لحل كامل، ما لم يتحمّل القطاع الخاص مسؤولياته، ويتوقف عن لعب دور الميّت، أو الاكتفاء بأن يكون «تفق برزة»، والدولة تواجه مشكلة حرجة تكبر سريعاً.
علامات الاستفهام على بعض المؤسسات الحكومية، تظهر في النقل «الخفي» للوافدين من هيكلها الوظيفي الرسمي، إلى نظام العقود الخاصة، وبذات الرواتب العالية، حتى تبدو نسب التوطين عالية أمام الحكومة، هذا التلاعب يرسل رسائل مزعجة للقطاع الخاص، بأن القطاع الحكومي نفسه لا يستطيع توطين كل وظائفه، ولا يثق بقدرات أبناء البلد، فلماذا يثق بهم القطاع الخاص إذن؟، أليس من المخجل ألا توجد ولا مؤسسة يتيمة وصلت نسبة التوطين فيها إلى 100 %، بل الأدهى، أنّ بعضها ما زال التوطين في حدود الثلث فقط من العدد الإجمالي.
في تقرير قدمته اللجنة المؤقتة للتوطين في المجلس الوطني الاتحادي عام 2013، أكدت أنّ عدد العاملين في القطاع الخاص داخل الدولة، يبلغ نحو أربعة ملايين شخص، بينهم نحو 3.2 ملايين من العمالة الهامشية، ونحو 800 ألف وظيفة يمكن توطينها، نظراً لكونها في المستوى الوظيفي الأول، الذي يمكن أن يتناسب مع المواطن، من حيث المؤهلات والحوافز، لافتة إلى أن عدد المواطنين في القطاع الخاص حالياً، يتراوح بين 20 و30 ألف مواطن فقط، ورغم طرح العديد من المبادرات «الصادقة»، إلا أنّ استجابة القطاع الخاص لم تكن كما ينبغي، وهو الأمر الذي أكدته دراسة بحثية، نشرتها الهيئة الاتحادية للموارد البشرية عام 2015، بأن نسبة النجاح المتحققة من التوطين في القطاع الخاص «محدودة»!
إن اقتصاد الإمارات ضخم، وأحد أسرع الاقتصادات نمواً، وتقدّر بعض الأوراق البحثية، إلى أنه قادر على خلق نحو 600 ألف فرصة عمل سنوياً في القطاع الخاص، ما يعني أنّ البطالة لدينا لا بد أن تكون مُزحة، ما دام لدينا كل هذه الشواغر سنوياً، لكن، لا بد من الاعتراف بأن الجاليات الأجنبية، وتحديداً الآسيوية، تُهيمن على هذا القطاع، ولا تنفك عن رفع مبرر «السوق الحر»، في ورقة ضغط ضد ملف التوطين، والذي يبدو نقيضاً لأولوية النمو التي يدندن عليها المهيمنون على هذا القطاع، لقد أصبحنا نشعر بأن تلك الوظائف اليسيرة التي تُمنح للمواطنين، أصبحت «صَدَقة» وتكرّماً من شركات كَبُرَت حساباتها وأرباحها، كما كَبُرَت «كروش» أصحابها من خير هذا البلد.
إنّ «إمارات ما بعد آخر برميل نفط»، تحتاج لوقفة حازمة من الآن مع القطاع الخاص، ومراجعة صارمة لممارسات «النص كُم» لبعض المؤسسات الحكومية، حتى نضع حلاً نهائياً لمشكلة من المنطقي ألا تكون موجودة أصلاً، تجاهل «حَرَج» الموقف ليس بصحيح، وكرة الثلج إنْ تُرِكَت، فستخرج عن السيطرة، والمفترض أنّ "اللي ما تيبه عصا موسى، بتيبه عصا فرعون".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة