انفتاح العالم افتراضيا، وظهور حروب الجيلين الرابع والخامس، فاقما التحديات أمام متانة رأس المال الاجتماعي.
من المتعارف عليه أن "رأس المال الاجتماعي" هو مستوى الثقة والانتماء بين أبنـاء المجتمـع وقـدرتهم عـلى العمل جنباً إلى جنب لتحقيق أهداف مشتركة، وأنه يختلف من مجتمع إلى آخر، وبالطبع يتغير مع الزمن، حيث يمكن لمجتمع أن ينجح في اكتساب رأس مال اجتماعي بعد فترات من انعدامه أو ضعفه، كما يمكن أن يفقد مجتمع رأسماله الاجتماعي أو تتدهور قدرته على الحفاظ عليه. ولا شك في وجود ارتباط قوي ووثيق بين رأس المال الاجتماعي والأمن القومي، حيث إن غنى رأس المال الاجتماعي، وانتشار التواصل الاجتماعي، وسيادة الثقة والانتماء بين أفراد المجتمع وتخطيها للجماعات المكونة للمجتمع، يسهم إسهاما محددا وجوهريا في خلق أو تقوية تماسك الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية، وكل ذلك من المكونات الرئيسية للأمن القومي، بعد التخلي عن مفهومه الضيق الذي كان يتمحور حول الجانب العسكري.
ولا شك في أن انفتاح العالم كله على بعضه افتراضيا من ناحية، وظهور ما يسمى حروب الجيلين الرابع والخامس من ناحية أخرى، فاقما التحديات التي تقف عقبة أمام تشكل أو متانة رأس المال الاجتماعي، وأثرا بلا شك بالتبعية على مفهوم الأمن القومي للدول. فالعلاقات الاجتماعية الافتراضية جعلت الفضاء العام لبعض الدول كمصر - نظرا لاستهدافها - مستباحا لقاطني دول أخرى، يدلون بدلوهم بشكل سلبي في أدق تفاصيل الحياة اليومية، مما وسّع من مفهوم الفضاء العام لدرجة كان من الصعب معها الحفاظ على متانة رأس المال الاجتماعي في لحظات كثيرة في العقد الثاني من هذا القرن. وفي هذا الإطار، لا يجب ألا ننسى الدور السلبي والخطير الذي تلعبه الإسلاموية التي تمثل منذ نشأتها عام 1928 العقبة الرئيسية أمام تشكل أو تمتين رأس المال الاجتماعي في الدولة العربية الوطنية؛ لأنها رؤية للعالم مغايرة لما يتوجب عليه أن تكون الدولة المواطنية الحديثة.
من ناحية أخرى، من المعروف أن حروب الجيلين الرابع والخامس تعتمد بالأساس على خلق تناقضات ما بين الدولة والمجتمع من جانب، وبين الجماعات والفئات المكونة للمجتمع من جانب آخر، باستغلال كل الوسائل، لإحداث الخلل في تلك العلاقة التي هي الحبل السري لرأس المال الاجتماعي. وكلا نوعي الحربين يهدف لهدم الدولة من خلال احتلال العقول لا الأرض أو إضعاف الدولة على أقل تقدير، ليتم فرض الإرادة الخارجية وإملاء الشروط، وهو ما كانت تحققه القوات العسكرية ولكن بخسائر أكبر بكثير من استهدافها رأس المال الاجتماعي.
لا بد إذا من تحور دور الدولة أمام تلك المخاطر والتحديات؛ وذلك باعتبار حماية والذود عن رأس المال الاجتماعي ينطوي بامتياز تحت مظلة مفهوم الأمن القومي مثله مثل حماية الحدود. وعلى الدولة الوطنية العربية أن تعمل من أجل ذلك في اتجاهين متكاملين، الأول يوسّع قاعدة الشعور بالحرية والكرامة وتحقيق درجة رفاهية مناسبة للمواطنين وتحسين أوضاعهم المالية بصورة مستمرة، وإقامة عدالة اجتماعية من خلال الحرص على تقريب الفوارق بين الطبقات، وتطوير الخدمات وتطوير منظومة سياسية واجتماعية تتيح لكل قوى الشعب المؤمنة بالدولة الوطنية المواطنية الترقي والتعبير عن نفسها في ظل دولة القانون. الاتجاه الآخر، يقوم على حماية رأس المال الاجتماعي، وذلك باعتباره كالحدود مَن يعتدي عليه كالذي يعتدي على الحدود الجغرافية للدول.
فمَن يعتدي على رأس المال الاجتماعي يجب محاربته بكل ما تشي به كلمة حرب من معنى، لأنه يستهدف خلق أو تعميق أزمة ثقة وأزمة هوية للدولة المستهدفة لفرض إرادته عليها أو لنهب ثرواتها. وفي هذا الإطار يجب معاملة دول كقطر وتركيا وإيران، والتي تعتدي قنواتها الإعلامية يوميا على رأس المال الاجتماعي لدول الرباعي العربي مصر والسعودية والإمارات والبحرين، مستخدمة في ذلك الإسلاموية بشقيها السني والشيعي لتجييش مواطني الدول العربية ضد دولهم الوطنية.
فالأمن القومي اليوم إذا يجب أن يعنى في المقام الأول بتمكين المجتمع من تشكل وتمتين رأس المال الاجتماعي الخاص به على أرضه المستقلة، وذلك بتنمية الشعور بالانتماء والولاء والثقة لتعزيز وتأمين انطلاق مصادر القوة الوطنية في جميع الميادين في مواجهة التهديدات الخارجية والتحديات الداخلية. ولا مناص من أجل تحقيق ذلك بغير اعتبار رأس المال الاجتماعي كالحدود الجغرافية للدولة يجب الذود والدفاع عنه بكل سبل القوى الشاملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة