الانزياح الفكري أو ما يعرف بـ Paradigm Shift غالباً ما يتبعه انزياح ثقافي واجتماعي، نتيجة لحدث سياسي أو اقتصادي كبير ومهم. أغلب من يعرف الانزياح الفكري يعتبره أساساً لفهم نقاط التحول الكبرى في أي مجال ما
الانزياح الفكري أو ما يعرف بـ Paradigm Shift غالباً ما يتبعه انزياح ثقافي واجتماعي، نتيجة لحدث سياسي أو اقتصادي كبير ومهم. أغلب من يعرف الانزياح الفكري يعتبره أساساً لفهم نقاط التحول الكبرى في أي مجال ما، فمثلاً الثورات الصناعية هي في الحقيقة نتيجة انزياحات فكرية وعلمية نتجت عنها بيئة ثقافية واقتصادية واجتماعية جديدة. وأنا هنا لا أريد أن أطيل في التنظير، ولكن سأركز على ارتباط الفكرة بالقضية القطرية الساخنة التي نعيش تداعياتها هذه الأيام. أذكر قبل أكثر من ربع قرن أني قرأت كتاب "بنية الثورات العلمية" لمؤلفه "توماس كون"، فقد أثار هذا الكتاب تساؤلاً حاداً لدي هو: "لماذا استطاعت بعض المجتمعات والثقافات تجاوز عنق الزجاجة والبعض الآخر سقط في قعر الزجاجة؟" ما هي الشروط المطلوبة لإحداث انزياح فكري كامل يعقبه انزياح سياسي واقتصادي واجتماعي في دول الخليج، ولماذا لم يستطع مجلس التعاون إحداث هذا الانزياح، رغم أن تأسيسه كان يمثل نقطة تحول كبرى في المنطقة؟ هذه الأسئلة جعلتني أتذكر الآية الكريمة: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" )الحديد: 13). لأن الخروج من أي أزمة سياسية هو أشبه بالانتقال إلى الجانب الآخر من الباب الذي باطنه الرحمة، فهل سنصل إلى الجانب الآخر بعد أزمة قطر؟
اللغط الكبير الذي يدور حول الأزمة الحالية هو أشبه بالاختبار الصعب لدول مجلس التعاون، فأنا حقيقة من الذين يراهنون على هذا المجلس وأرى أن بقاءه واجب، لكنني لست متأكداً من أنه سيبقى كما كنا نعرفه بعد هذه الأزمة السياسية الخانقة التي بدأت تداعياتها تنتقل على المستوى الشعبي. الملاسنات التي يضج بها "التويتر" بين مواطني دول الخليج يبين بشكل واضح أن مجلس التعاون فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق تقارب كبير بين الشعوب الخليجية ولم يستطع تذويب النعرة بين مواطني الدول الأعضاء، الأمر الذي يجعلنا نتوقف طويلاً عند هذه الظاهرة، لأنها كشفت عورات مجلس التعاون دفعة واحدة.
ما زلت مُصراً أن على قطر أن تحكم العقل معدومة، فحتى لو استمرت في عنادها لعدة شهور أو حتى سنوات، لن تستطيع البقاء بهذه الصورة المدمرة لها اقتصادياً واجتماعياً، ولن أقول سياسياً وثقافياً
البعض يلقي اللوم على الإعلام، ويؤكد أن الاعلام الخليجي ضعيف، بمعنى أن من يتحكم في الإعلام هم من خارج المنطقة، وهؤلاء لهم أجندات خاصة ينفذونها على أراضينا وبوسائل إعلامنا وبتمويل من أموالنا، ونحن أول ضحايا هذه الأجندات. كما أن الاهتمام بتعليم الإعلام في دول المجلس ضعيف جداً ولا يلقى بالاً، فهو في قاع الأولويات، إضافة إلى كونه تعليماً مؤدلجاً ومسيساً وبالتالي يظهر ضعيفاً ومنحازاً ويفتقر للمنطق. جميع هذه الإشكالات تؤكد أننا نمر بمنعطف فكري/ سياسي كبير سيؤدي إلى ظهور بيئة اجتماعية/ ثقافية جديدة في منطقة الخليج، لا أعلم ما ستكون أولوياتها، لكن دون شك أن الأزمة القطرية ستصنع"انزياحا" فكرياً عميقاً وصادماً، لأن الظاهرة التاريخية للانزياحات الفكرية والثقافية غالباً ما تبنى على التدرج غير المحسوس الذي يصنع تغييراً كبيراً على مسافة طويلة من الزمن، لكن ما نعيشه حالياً من مواجهة سياسية بين دول مجلس التعاون هو نوع من الانزياح السريع الذي سيربك المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وباقي المشاهد الأخرى.
ما زلت مُصراً أن على قطر أن تحكم العقل وأن تعود لدول مجلس التعاون، لأن الخيارات أمامها معدومة، فحتى لو استمرت في عنادها لعدة شهور أو حتى سنوات، لن تستطيع البقاء بهذه الصورة المدمرة لها اقتصادياً واجتماعياً ولن أقول سياسياً وثقافياً. ومع ذلك دعوني أقول إنه حتى لو عادت قطر بسلاسة إلى أحضان منظومة التعاون الخليجي خلال الفترة القادمة، الانزياح الفكري للمنظومة الخليجية سيحدث، لأن مفاعلات الانزياح اشتغلت وبدأت في القيام بدورها التاريخي ولا يمكن العودة للوراء، لأن هذا من السنن الكونية التي عادة تغير المجتمعات وتبدلها وتنقلها من حال إلى حال. نحن أمام عصر جديد للمنطقة بدأ يتشكل ويبدو أننا سنعيش هذا العصر بكل تفاصيله في الأيام القادمة كما عشنا تفاصيل نشأة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، لكن هذه المرة ستكون التحديات كبيرة والعامل السياسي والأمني لن يترك مجالاً واسعاً بين دول التعاون للمجاملات.
* نقلاً عن "الرياض"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة