تلاحقت التطورات منذ الإعلان الأمريكي عن مقتل الجنرال قاسم سليماني مسؤول فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني
تلاحقت التطورات منذ الإعلان الأمريكي عن مقتل الجنرال قاسم سليماني مسؤول فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في غارة جوية شنتها طائرة أمريكية مسيرة على موكب سيارات في مطار بغداد في الساعات الأولى من يوم الجمعة الماضي.
وربما كان من الطبيعي وكما هي العادة في ظل مثل هذه التطورات الجيوسياسية أن يسود التخوف من إمكانية اتساع نطاق التهديدات المتبادلة بين طهران وواشنطن لتتحول إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق، وكان لهذا التخوف أثره على كثير من الأسواق.
ونتيجة لطبيعة هذا الرد الإيراني وعدم وقوع ضحايا، فقد تم تحجيم الأزمة والسيطرة عليها وهو ما ترتب عليه اتجاه عكسي في كل الأسواق السابق الإشارة إليها، فقد اتجهت أسواق المال مرة أخرى للارتفاع، كما هبطت عملات الملاذ الآمن (الين الياباني والفرنك السويسري) مرة أخرى في مقابل الدولار الأمريكي
فقد شهدت مؤشرات الأسواق المالية في مختلف أرجاء العالم حالة من التدهور، إذ كان هناك ابتعاد من المستثمرين عن الاستثمار في الأصول مرتفعة المخاطر ومن بينها الأسهم، وذلك خشية أن يؤدي أي تصعيد للنزاع إلى حرب واسعة بين الطرفين، ما قد يؤثر سلبا على النشاط الاقتصادي وعلى نتائج أعمال الشركات، ولهذا انخفضت أسواق المال في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وفي منطقة الخليج والشرق الأوسط على خلفية هذا الخوف من تصاعد النزاع.
بالمقابل شهدت أسواق الذهب ارتفاعا واضحا في أسعاره لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ مارس/آذار 2013، أي سجل الذهب أعلى سعر في نحو سبعة أعوام، وذلك باعتبار المعدن النفيس يعد من بين أهم الملاذات الآمنة التي يتم اللجوء إليها في أوقات الاضطرابات السياسية والاقتصادية حينما يخيم جو ضبابي يتسم بعدم اليقين بشأن المستقبل.
وفي الاتجاه ذاته أيضا في سوق العملات اتجهت الأموال ناحية العملات التي تشكل ملاذا آمنا وقت الأزمات وعلى رأسها كل من الين الياباني والفرنك السويسري، وترتب على ذلك بالطبع ارتفاع سعر صرف هاتين العملتين مقابل الدولار الأمريكي بشكل كبير.
أما أهم التأثيرات فقد كانت بطبيعة الحال من نصيب أسواق النفط، كون أن الخطر كان محدقا بأهم منطقة في إنتاج وتصدير النفط في العالم. وقد اتسمت ردة الفعل الأولية بارتفاع بالغ في سعر برميل النفط حتى بلغ سعر برميل النفط الخام من نوع برنت أكثر من 70 دولارا، حيث حدثت الزيادة يومي الجمعة الذي تم فيه قتل سليماني ثم اليوم الثاني الذي عملت فيه الأسواق، أي يوم الإثنين، ثم شهدت الأسعار بعض الانخفاض يوم الثلاثاء مع عدم معرفة طبيعة الضربة الانتقامية التي تهدد بها إيران.
وفي هذا الشأن كانت هناك بعض الدوافع التي حدت من حدوث زيادة كبيرة ومتواصلة في الأسعار، ومن بين أهم هذه الدوافع ما يلي:
كان من رأي عدد من المصادر المهمة ومن بينها وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي أن الملاحة لن تتأثر في الخليج ولن تعترض إيران طريق الملاحة في مضيق هرمز، ويبدو أن هذه المراهنة كانت تعتمد على أمرين؛ أولهما أن إيران ذاتها تمر صادراتها عبر مضيق هرمز، والثاني هو أن ذلك كان سيعد تصعيدا مبالغا فيه ويؤدي من ثم إلى تصعيد وتوسعة النزاع بين واشنطن وطهران ليتحول إلى حرب، وهو ما رأى العديد من المراقبين أن كلا الطرفين يحاول تجنبه بكل الوسائل.
الدافع الثاني هو أنه على افتراض أن إيران استهدفت تسهيلات نفطية في المنطقة، فقد يكون تأثير ذلك كبيرا على الأسعار، ولكنه على الأغلب سيكون محدودا من حيث الفترة الزمنية، من ناحية لأن التجارب السابقة وأهمها العدوان الذي تعرضت له منشآت نفطية سعودية في منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي قدم الدليل على ذلك. فرغم تأثير هذه الاعتداءات الكبير بانخفاض الإنتاج السعودي بمقدار 5.7 مليون برميل يوميا، أي ما يزيد على نصف كمية الإنتاج السعودي وما يصل إلى أكثر من 5% من جملة الإنتاج العالمي، فإن سحب المملكة السعودية من مخزونها النفطي لكي لا تتأثر الأسواق، علاوة على القدرة غير العادية على إصلاح المنشآت السعودية في زمن قياسي لم يتجاوز الأسبوعين، بعد أن كان البعض يقدر لذلك عدة أشهر أدت إلى عدم زيادة أسعار النفط بشكل كبير سوى لفترة قصيرة للغاية.
ومن هنا فقد كان التوقع وفي ظل وجود طاقة إنتاجية فائضة لدى منظمة الأوبك وحدها قدرها أمين عام المنظمة بنحو 3.5 مليون برميل يوميا فقد حد ذلك من المخاوف، وكذا عمل على قصر الوقت الذي استغرقته زيادة الأسعار.
وفي هذا الشأن أيضا كانت تقديرات وزير الطاقة الإماراتي أن سوق النفط تتلقى إمدادات جيدة حاليا وأن الإمارات لا تتوقع نقصا في الإمدادات ما لم يحدث "تصعيد كارثي" في المنطقة وهو ما لا تتوقعه.
الدافع الثالث وراء هذه التوقعات كان نتيجة لما ذهب إليه استقراء المشهد من أن إيران لن تستهدف على الأغلب أي تسهيلات نفطية، بل ستستهدف على الأغلب أهدافا عسكرية أمريكية، وهو ما كان قد ذهب إليه أمين عام حزب الله اللبناني المدعوم إيرانيا من أن الرد سيركز على استهداف العسكريين الأمريكيين.
وقد أتى الرد الإيراني كما كان قد توقع البعض بالفعل بإطلاق 15 صاروخا باليستيا على قاعدتين عسكريتين في العراق يوجد بهما عسكريون أمريكيون ومن جنسيات أخرى. وحسب وزير الخارجية الإيراني، فقد اكتمل بذلك الرد الإيراني على عملية اغتيال قاسم سليماني. وفي الوقت الذي أعلنت فيه إيران سقوط 80 عسكريا أمريكيا نتيجة لهذا القصف، أعلنت المصادر الأمريكية ومصادر لبلدان أخرى لها قوات في العراق من أنه لم تقع أي إصابات بشرية نتيجة للقصف الصاروخي الإيراني. بل وذهب بعض المراقبين إلى حد القول إن إيران ربما تكون قد تعمدت عدم وقوع ضحايا لضرباتها الصاروخية حرصا على عدم التصعيد.
ونتيجة لطبيعة هذا الرد الإيراني وعدم وقوع ضحايا، فقد تم تحجيم الأزمة والسيطرة عليها وهو ما ترتب عليه اتجاه عكسي في كل الأسواق السابق الإشارة إليها، فقد اتجهت أسواق المال مرة أخرى للارتفاع، كما هبطت عملات الملاذ الآمن (الين الياباني والفرنك السويسري) مرة أخرى في مقابل الدولار الأمريكي.
وكان الانخفاض أيضا ملحوظا في سوق النفط العالمي، حيث هبطت الأسعار من مستوى بلغ ما يزيد على 71 دولار لبرميل نفط برنت صبيحة يوم الأربعاء في أعقاب الضربة الصاروخية الإيرانية مباشرة، حيث لم يكن قد عرف بعد أي شيء عن أبعاد هذه الضربة وآثارها، وكان هناك خوف شديد من آثار بالغة للضربة يترتب عليها رد أمريكي وتصعيد النزاع وتوسعته، ليتحول الأمر في النهاية إلى تسجيل سعر البرميل أقل من 68 دولارا، ثم إلى أقل من 66 دولارا، أي إلى أقل من المستوى الذي كان سائدا قبل مقتل سليماني، وذلك بعد أن اتضحت الأبعاد الكاملة للضربة وتخفيف حدة التهديدات المتبادلة الأمريكية الإيرانية، وإعلان الطرفين حرصهما على عدم التصعيد. اللافت للنظر أيضا أن حدوث الرد الإيراني بشكل سريع نسبيا، خلال أربعة أيام لم يسمح بتمدد دور المضاربة في السوق، حيث تزيد المضاربة في أوقات عدم اليقين بشأن المستقبل وعدم حسم الاتجاه نحو انخفاض أو ارتفاع الأسعار، وهو ما يعمل عادة على تقلب أسعار النفط في نطاق واسع لفترة من الوقت وهو ما لم يحدث في هذه الأزمة الأخيرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة