إيران بعد مقتل سليماني تبدو مدعوة إلى قراءة السياسة الأمريكية جيدا، ومن هذه القراءة يمكن الحديث عن سيناريو عدم الرد
ذهب معظم المحللين والكتاب إلى القول إن إيران سترد بقوة على مقتل الجنرال قاسم سليماني، ولعل إجماع هؤلاء على حتمية الرد الإيراني، يعود إلى مجموعة أسباب، من أهمها:
ترامب قلب قواعد الاشتباك مع إيران، وربما يقوم بمزيد من عمليات الاستهداف لإيران ورموزها إذا لم تتراجع الأخيرة عن سياستها السابقة
ومن هنا، فإن إيران بعد مقتل سليماني تبدو مدعوة إلى قراءة السياسة الأمريكية جيدا، ومن هذه القراءة يمكن الحديث عن سيناريو عدم الرد
الأول أن سليماني كان رمزا للسياسة الإقليمية الإيرانية، فالرجل كان عنوانا لتوسيع نفوذ إيران وهيمنتها في المنطقة، إذ للمرة الأولى في التاريخ تستهدف واشنطن رمزا إيرانيا بهذا المستوى، وبالتالي شكل قتله صدمة قوية للقيادة الإيرانية، وضربة في العمق لإيران (الثورة) التي تتطلع إلى نفسها كدولة إمبراطورية.
الثاني أن الضربة الأمريكية كانت بمثابة تغيير قواعد الاشتباك مع إيران، بعد أن ذهبت إيران بعيدا في ضرب المصالح الأمريكية خلال الفترة الأخيرة؛ من إسقاط طائرة أمريكية في مضيق هرمز إلى قصف منشآت أرامكو النفطية في السعودية، وصولا إلى مهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد ومحاصرتها، كل ذلك دفع بالجانب الأمريكي إلى قلب الطاولة على طهران ورسم معادلة جديدة للمواجهة، وهي مواجهة لن تكون في مصلحة إيران إذا تحولت إلى مباشرة، إذ إن هذه الأخيرة تختلف عن حرب الأذرع التي تجيدها إيران جيدا، وعليه يرى هؤلاء المحللون أن إيران لن تقبل بقلب الإدارة الأمريكية الطاولة عليها، وأنها سترد لإعادة الاعتبار لها.
الثالث أن النظام في إيران ومعه أذرعه في لبنان والعراق واليمن، وصلوا إلى أقصى مدى في التهديد بتوجيه أقصى الضربات إلى أمريكا ووجودها العسكري في المنطقة، حيث القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في معظم دول المنطقة، وعلى مقربة من الصواريخ الإيرانية.
هذه الأسباب وغيرها، شكلت الأرضية التي دفعت بهؤلاء المحللين إلى الجزم برد إيراني كبير على مقتل سليماني، فهل هذه الصورة الحقيقية للموقف الإيراني؟
في البداية، لا بد من القول إن القراءة الإيرانية لموقف أمريكا من الاستهدافات الإيرانية المتكررة لمصالح أميركا ووجودها العسكري في المنطقة، كانت خاطئة، وربما الصبر الأمريكي على هذه الاستهدافات، كان تعبيرا عن استراتيجية عدم الانجرار إلى تكتيك إيران، ودفع واشنطن إلى مفاوضات معها بشروط، تفضي إلى رفع العقوبات عنها دون تغيير سياستها، في حين جاءت الضربة الأمريكية لتؤكد أن هذا الصبر لم يعد ممكنا، لاسيما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دخل في عام انتخابي، ولديه كثير من المشكلات المهددة لفرصته الانتخابية الثانية، لذا بات بحاجة إلى أعمال نوعية يحولها إلى رصيد سياسي وانتخابي في المرحلة المقبلة، وثمة من يرى أن مقتل سليماني أمن له إلى حد كبير هذه الفرصة، أي أن ترامب قلب قواعد الاشتباك مع إيران، وربما يقوم بمزيد من عمليات الاستهداف لإيران ورموزها إذا لم تتراجع الأخيرة عن سياستها السابقة.
ومن هنا، فإن إيران بعد مقتل سليماني تبدو مدعوة إلى قراءة السياسة الأمريكية جيدا، ومن هذه القراءة يمكن الحديث عن سيناريو عدم الرد، خصوصا أن إيران في اللحظات الحاسمة تتبع سياسة براغماتية عكس شعاراتها الأيديولوجية، كما أن لها تجربة كبيرة مع السياسة الأمريكية بهذا الخصوص، إذ إن الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 جرى بتفاهم وتنسيق مع إيران، وهو السيناريو نفسه الذي سبق وجرى خلال حرب أفغانستان، وفي الحالتين كانت إيران المستفيدة الكبرى من هذا التفاهم مع الجانب الأمريكي. وعليه فإن سيناريو عدم الرد يجب عدم استبعاده في ظل البراغماتية الإيرانية المعروفة أولا، والمكاسب المنتظرة إيرانيا من سيناريو كهذا ثانيا، فمن جهة مثل هذا السيناريو قد يكسبها تعاطفا دوليا، ويشكل ضغطا كبيرا على الإدارة الأمريكية وتحديدا الرئيس ترامب، وربما تراهن إيران بهذه الطريقة على خسارة ترامب في الانتخابات المقبلة، تطلعا إلى سياسة أمريكية جديدة مع إيران.
ومن جهة أخرى، فإن مثل هذا السيناريو يمكن استثماره في الداخل الإيراني، لجهة إظهار المظلومية لتبرير سلوكيات النظام، وتبرير الانهيار الاقتصادي الجاري في ظل ازدياد النقمة الشعبية، بما يؤدي إلى ترسيخ النظام في الداخل بعد أن فقد كثيرا من مصداقيته، ومقومات خطابه الأيديولوجي والسياسي، لا سيما بعد رفع شعار المطالبة بإسقاط النظام في المظاهرات الجماهيرية الأخيرة التي عمت عددا من المدن الإيرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة