يوماً بعد يوم تدخل القضية السورية دهاليز الحلول المظلمة، فتتضخم القضية وتتشابك ككرة ثلجٍ تدحرجت إلى عقدها الثاني من التجاذبات الماراثونية التي تدور في حلقة مُفرَغة.
وهو ما يزيد الواقع المفروض تدهوراً في ميادينه المختلفة؛ سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، ومردُّ هذا الأمر على المستوى الدولي معروف للجميع كونه محكوماً بالمصالح السياسية والمكاسب الاستراتيجية والمادية للأطراف الدولية الفاعلة، أما على المستوى الداخلي المتعلق بالأطراف السورية المتعددة، فإنه يُردُّ إلى أيديولوجية الرؤى المتباينة للحل الدائم في سوريا، والتي تقوم في جوهرها على تصوُّر كل طرفٍ للحل الميثولوجي المناسب لتصوره، المستند إلى فكرة فرض استقرار البلاد بناءً على مقتضيات مِثاليّة من الاستقرار والتصالح التام وفق طرحه الخاص فقط.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الحلول الميثولوجية من حيث المبدأ هي حالة صحية، وفكر متّقدٌ عندما يتعلق الأمر بقضايا ومسائل عابرة، أما عندما يتعلق بقضية مُعقّدة أودت ببلدٍ مثل سوريا إلى مزالق دموية وتدميرية أنهكت البلاد، فلا بدّ من الانطلاق في مسارات الحلحلة وفق معطيات الواقع المفروض والانحياز إلى أقصر الطرق وأقلها تكلفةً لإرساء الأولوية الضامنة لاستقرار البلاد وانطلاقها نحو مرحلة الإعمار والبناء، وهذه الأولوية تقتضي التخلص من أي قيدٍ أو شرطٍ لأي طرفٍ من الأطراف، سوى المبادئ العامة الضامنة لاستقرار أي بلدٍ بصرف النظر عن توجهات فُرقائه، وأهم هذه المبادئ:
أولاً: وحدة الأرض واستقلال البلاد: فأي طرحٍ يمكنُ أنْ ينقل السفينة السورية إلى شاطئ الحل يجب أنْ يتمّ التوافق عليه من جميع الأطراف ما لم يمسّ وحدة الأرض، وهو في العموم مُتفقٌ عليه بين جميع الأطراف إلا أنّ كل واحد منها يتصور وحدة الأرض وفق ميثولوجيته الخاصة عادّاً كل ما عداها مساساً بها، ولكن الحقيقة تكمن في أنّ لوحدة الأرض صيغاً كثيرة يمكن البحث فيها والتفاهم عليها بين الفرقاء وفق ثوابت وحدة الحدود والعَلَمِ والقرار السياسي والسيادي المتسم بالاستقلال لصالح سوريا والسوريين، سواء بمركزية للحكم أو بلامركزية، إذ لا بدّ من طرح كل الأفكار الواقعية على طاولة التشريح السورية السورية ودراستها بجدية من أجل التوصل إلى صيغة وفرضية واقعية للحل.
ثانياً: قَبول الآخر ورفض نظرية الإلغاء: وهو أيضاً مبدأ متفقٌ عليه في مفهومه العام، والآخر في التصور الميثولوجي هو كل مختلف عني تقوم غيريته على المجاورة، أما الآخر واقعياً فهو كل مختلفٍ في الفكر والأيديولوجية والرؤية السياسية وتقوم غيريته على المشاركة، فلابدّ من قبول الآخر ومشاركته ورفض إلغائه، ولا بدّ من انفتاح الميادين على الحوار أمام المختلفين وإشراك الجميع في الحياة السياسية بما يضمن وجود الآخر على المستوى الفكري والسياسي وضمان حقه في المشاركة سواء كان شبيهاً أم مختلفاً، وبما يضمن حماية وجوده وشراكته.
ثالثاً: الارتباط بالتحالفات الدولية، فمن المُسلّم به في الحياة السياسية والوجودية لأي بلدٍ في العالم حقيقة ارتباطه بعلاقات تحالف مع كيانات إقليمية ودولية تحيط به، فإذا كانت الميثولوجيا في هذا الصدد ترسم تصوراً مثالياً للتحالفات القائمة على الارتباط العضوي التام الذي لا يمكن أنْ يخضع إلا لمبدأ الوفاء التام، فإنّ هذه الميثولوجيا تتحطم على أعتاب السياسة الواقعية، لتكون الحقيقة مرسومة في هذا المجال على صورة توازنات وتفاهمات تفتح الأبواب أمام الجميع وبسوية واحدة على المستويات السياسية والدبلوماسية، وهذا ما لا يمكن الوصول إليه ما لم يتفق الفرقاء السوريون في البداية على صيغة مناسبة تُعلي مصلحة البلاد والشعب على أي اعتبار سياسي شرط أن لا يتعارض هذا مع المبدأين السابقين.
في الحقيقة إنّ تمسك كل طرف من الأطراف السورية الفاعلة على الأرض بميثولوجيته الخاصة يزيد المشهد المعقّد أصلاً تعقيداً، فلا بدّ من تجاوز الميثولوجيات الخاصة والبحث في المعطيات الواقعية وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء وفق تلك المعطيات التي لا يشك عاقلٌ بأنها ستقوم على جملة من التنازلات، وكل التنازلات واجبة على كل الأطراف ما لم تخل هذه التنازلات بالمبادئ العامة الضامنة لاستقرار البلاد، وإلا فإنّ الدوران في حلقة الميثولوجيا لن تثمر حلاً لا في المستقبل القريب ولا حتى البعيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة