انتخابات جنوب أفريقيا.. فوز صعب للمؤتمر الوطني
التفويض الهش الذي منحه الشعب للمؤتمر الوطني سوف يجعل الحزب مطالبا ببذل المزيد من الجهد خاصة أن طريقه لن يكون مفروشا بالورود.
في 11 مايو/ أيار الجاري، أسدلت اللجنة الانتخابية العليا بجنوب أفريقيا الستار على الانتخابات العامة في البلاد، بالإعلان عن فوز حزب المؤتمر الوطني بأغلبية مقاعد البرلمان والمجالس الإقليمية. ورغم أن النتيجة تمنح زعيمه سيريل رامافوزا تفويضاً جديداً للبقاء في السلطة 5 أعوام قادمة، وذلك بموجب الدستور الذي يمنح زعيم الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية الحق في تولي رئاسة البلاد، لكنها تعد النتيجة الأسوأ بالنسبة للحزب الحاكم، الذي يخوض الانتخابات للمرة السادسة منذ تقلده السلطة عام 1994، وهو ما يحمل رسالة بالغة الدلالة، تنذره بضرورة تدارك الموقف، قبل أن يدير الشعب ظهره للحزب خلال الانتخابات المقبلة.
كانت الانتخابات العامة التشريعية والمحلية قد أجريت بجنوب أفريقيا خلال 8 مايو/ أيار الجاري، بمشاركة 48 حزباً سياسياً، من بين 285 حزباً مسجلاً بالبلاد، حيث تم فتح باب الاقتراع أمام 26.8 مليون ناخب، لتشكيل برلمان جديد للبلاد، قوامه 400 نائب، بالإضافة إلى 9 مجالس إقليمية، وفقاً لنظام القائمة النسبية المغلقة، من خلال 22.925 مركز اقتراع.
ملامح الحملات الانتخابية
بدأت الحملة الانتخابية مبكراً، وتخللها الكثير من الجدل والحملات الدعائية، حيث جرى تبادل الاتهامات بين المتنافسين بإطلاق الشائعات والأخبار المضللة، لكن اللجنة الانتخابية لم تسجل الكثير من أحداث العنف خلالها، وهو ما يعكس تمرس الأحزاب السياسية والشعب على خوض المعارك الانتخابية بأقل الخسائر الممكنة.
هيمنت 5 قضايا أساسية على الحملة الانتخابية أبرزها: إعادة توزيع الأراضي بالدولة، حيث لا يزال يهيمن المواطنون البيض على 75% من الأرض، رغم أن نسبتهم إلى إجمالي السكان البالغ عددهم 55 مليون نسمة لا تتجاوز8%، بالإضافة لقضية ارتفاع معدلات الجريمة، بعدما أضحت جنوب أفريقيا تصنف كواحدة من أخطر 10دول بالعالم، كما كانت قضايا النمو الاقتصادي، والفساد السياسي، والبطالة، حاضرة بقوة في المشهد، بعد فقدان جنوب أفريقيا لموقعها باعتبارها الدولة صاحبة الناتج المحلى الإجمالي الأكبر بالقارة الأفريقية، حيث تتفوق عليها نيجيريا منذ العام 2014.
كما ركزت الحملة الانتخابية لحزب المؤتمر الوطني على إبراز تاريخه النضالي، ودوره المحوري في إنهاء سياسة الفصل العنصري بالبلاد، وقدرة الحزب على تطهير ذاته داخلياً، ومحاربة الفساد، وكذا أبرزت خطة زعيم الحزب سيريل رامافوزا، رجل الأعمال الناجح، والخبير القانوني والنقابي السابق، من أجل تحقيق الإصلاح الاقتصادي، وزيادة فرص التوظيف، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية للشرائح الدنيا، حيث تعهد رامافوزا بتوفير 275 ألف فرصة عمل سنوياً، لمدة 5 أعوام، وإنشاء العديد من المناطق الاقتصادية، وزيادة الاستثمارات الأجنبية بمقدار 1.2 مليار راند، ومحاربة انتشار الجريمة المنظمة والعنف بالبلاد، خاصة العنف ضد المرأة.
في المقابل، انتقدت المعارضة هيمنة المؤتمر الوطني سياسياً على الدولة، وتورط أغلب قياداته في فضائح مالية وأخلاقية، تجعلهم تحت مستوى الشبهات، وكذا ضعف الأداء الاقتصادي للحزب خلال السنوات السابقة، مما أدخل البلاد دائرة الركود الاقتصادي للمرة الأولى منذ 2009، وأدى لانخفاض قيمة عملتها الوطنية، وزيادة الشريحة السكانية التي تقبع تحت خط الفقر، لتصل إلى 16.6%، وارتفاع نسبة البطالة إلى 27.7%، وتراجع التصنيف الائتماني للدولة، وهروب الاستثمارات الأجنبية، ورفع مستويات الفائدة على القروض الخارجية. لذا طالبت المعارضة المواطنين بالتحلي بالمسؤولية، والتضامن لإنهاء حكم المؤتمر الوطني، والاختيار بين الفساد الذي يرتع في البلاد، والرخاء الذي ينشده المواطنون.
بالرغم من ذلك، احتفظ المؤتمر الوطني بالأغلبية البرلمانية، دون الحاجة إلى الدخول في ائتلاف حزبي، قد يودي به في أي لحظة، بعدما حصد 57% من الأصوات (230 مقعداً)، وذلك بفارق كبير عن حزب المعارضة الرئيسي "التحالف الديموقراطي"، برئاسة موسى ميمان (وسط)، والذى حل بالمرتبة الثانية بحصوله على 20,8% من الأصوات (84 مقعداً)، فيما جاء حزب "مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية"، برئاسة جوليوس ماليما (يسار) في المرتبة الثالثة، بنسبة 10.5% من الأصوات (44 مقعداً).
أظهرت النتائج ارتفاع نسبة المشاركة السياسية، لتبلغ 65% من مجموع الناخبين، وهو ما يعكس الإحساس الشعبي بالمسؤولية وإدراك حجم المخاطر التي تحيق بالبلاد، كما أكدت استمرار المسار المتراجع لشعبية المؤتمر الوطني خلال الانتخابات البرلمانية، بعد تراجعه خلال الانتخابات البلدية عام 2016، محققاً 54% فقط من أصوات الناخبين، وانخفاض نسبة مؤيديه في الانتخابات البرلمانية الحالية مقارنة بالانتخابات السابقة عام 2014، والتي حصد خلالها الحزب 62.1% من أصوات الناخبين (249 مقعداً).
لكن أداء المؤتمر الوطني على مستوى المجالس المحلية كان أفضل حالاً، وذلك لدخول عاملي الانتماء الإثني والإقليمي كمؤثر مباشر في أصوات الناخبين، لذا احتفظ الحزب بأغلبية المقاعد في 8 مجالس إقليمية من المجالس الكائنة بمحافظات البلاد التسع.
وكان النجاح الأبرز حليفاً للمؤتمر الوطني بمحافظة جاوتينج، التي تعد أكبر محافظات البلاد قياساً بثقلها السكاني، والتي تضم العاصمة بريتوريا، ومدينة جوهانسبرج، التي يقع بها مسقط رأس الرئيس رامافوزا فى مدينة سويتو، الأمر الذي يجعلها مخزناً كبيراً للأصوات.
وبالنسبة لأداء أحزاب المعارضة، لم يكن أداء حزب التحالف الديموقراطي مقنعاً على مستوى الانتخابات البرلمانية، رغم أن 80% من أنصاره ينتمون للأغلبية السوداء، كما أنه لم يفز بالأغلبية على مستوى المجالس الإقليمية إلا في محافظة واحدة فقط هي الكيب الغربية، التي يهمين الحزب على أصواتها منذ عام 2009، فيما تحسن أداء حزب "مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية"، الذي لم تزد نسبة مؤيديه عام 2014 عن 6.5% (25 مقعداً)، بينما استمر تراجع شعبية حزب الحرية-انكاثا، في ظل تزايد هوة الخلافات والانشقاقات الداخلية به.
عوامل احتفاظ المؤتمر الوطني بالسلطة
يعود احتفاظ المؤتمر الوطني بالسلطة إلى 5 عوامل هي: الالتزام الحزبي لدى نوابه وأنصاره، والذي تغلب على آرائهم ومواقفهم الشخصية. والسمات القيادية لزعيمه سيريل رامافوزاً، الذي ينسب الكثيرون له فضل إنقاذ الحزب من التداعي وتعزيز تماسكه التنظيمي بعدما تراجعت شعبيته في عهد زوما. بالإضافة لتضامن الأحزاب الصغيرة مع الحزب الحاكم، طمعاً في اغتنام جزء من كعكة السلطة، ولو على مستوى القيادات الوسطى. ومساندة رجال الأعمال البيض للمؤتمر الوطني، بعد تعهده بتحقيق التوازن بين إعادة توزيع الأراضي تدريجياً وتحقيق العدل الاجتماعي، بعكس الأحزاب اليسارية الأخرى ذات التوجه الراديكالي، والتي تطالب بمصادرة الأراضي فورياً دون تعويض، مع تأميم المناجم.
وأخيراً القرار التاريخي للمؤتمر الوطني في أبريل/ نيسان 2019، بخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل من سفارة إلى مكتب اتصال، احتجاجاً على انتهاكاتها لحقوق الشعب الفلسطيني، وعدم تجاوبها مع جهود تسوية القضية الفلسطينية، انطلاقاً من حل الدولتين.
في هذا الإطار، رحب رامافوزاً بنتائج الانتخابات، مؤكداً أن الشعب قد ألقى بطوق النجاة للمؤتمر الوطني، وأنه سوف يبذل كافة الجهود لتأكيد جدارته بثقة مواطنيه، من خلال تشكيل حكومة فعالة، قادرة على النهوض بالاقتصاد ومحاربة الفساد، وهو ما أكده فريديك ديكليرك، آخر رؤساء جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، فيما اعترفت أحزاب المعارضة بنتائج الانتخابات، مؤكدة نزاهتها، رغم عدم قناعتها باستمرار المؤتمر الوطني في السلطة، حيث أكد زعيم التحالف الديموقراطي ميموسي ميمان أن اختيارات الشعب أدت إلى تركيز "سائق جديد في حافلة متهالكة".
بالرغم من ذلك، تظل هناك الكثير من التحديات التي تواجه الرئيس الجديد وأهمها: المقاومة المتوقعة لخططه الإصلاحية داخل المؤتمر الوطني، خاصة من جانب أنصار الرئيس السابق جاكوب زوما، الذين يحتفظون بنفوذ كبير لن يفرطوا فيه بسهولة، وكذا تورط العديد من العناصر الداعمة للرئيس رامافوزا في قضايا فساد مالي وأخلاقي، بالإضافة إلى ضرورة إيجاد صيغة ملائمة للفكاك من إرث العنصرية، التي انتهت على مستوى الدستور والقوانين، لكنها تظل حاضرة من خلال التفاوت الكبير في الأوضاع الاجتماعية ونظم الملكية، وهو ما تجسده قضية إعادة توزيع الأرض، التي تجعل الرئيس حائراً بين تحقيق العدل الاجتماعي والحفاظ على الاستثمارات الأجنبية.
في خضم هذه المسؤوليات الجسام، يمكن القول إن التفويض الهش الذى منحه الشعب للمؤتمر الوطني سوف يجعل الحزب مطالبا ببذل المزيد من الجهد، خاصة أن طريقه لن يكون مفروشا بالورود. وهنا يصبح التساؤل الأساسي الذي يتعين على الرئيس رامافوزا الإجابة عليه، وهو هل يستطيع المؤتمر الوطني الوفاء بتعهداته خلال السنوات الخمس المقبلة، بما يحافظ على شعبية الحزب الذي بناه الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا ورفاقه، أم يستمر الأداء غير المقنع للحزب، مرتكناً إلى ضعف شعبية معارضيه، الأمر الذي قد يفقده موقعه المفضل في السلطة، وهو أمر محتمل حال نجاح المعارضة في التكتل في إطار ائتلاف حزبي لمواجهة المؤتمر الوطني في انتخابات عام 2024.
** الدكتور أيمن شبانة: نائب مدير مركز حوض النيل - جامعة القاهرة