ما حدث في الفاشر الأسبوع الماضي لا يمكن فصله عن تحوّل أوسع في مزاج المجتمع الدولي تجاه الحرب السودانية.
فالعالم، الذي صبر طويلاً على خطاب "الترتيبات السيادية" الصادر من بورتسودان، بدأ عملياً في سحب بساط الشرعية الإجرائية من تحت أقدام النخب العسكرية والسياسية التي جعلت من استمرار الحرب شرطاً لبقائها في السلطة.
ولم يعد مقبولاً، في الحسابات الدولية، ربط وقف القتال أو فتح الممرات الإنسانية بشروط تفاوضية عبثية، لا وظيفة لها سوى إطالة أمد النزاع.
لقد ظل الخطاب الرسمي، المُثقل برؤى الحركة الإسلامية وميراثها الأيديولوجي، يصوّر أي حديث عن هدنة إنسانية أو رقابة دولية بوصفه مساساً بهيبة الدولة أو ضرباً للسيادة الوطنية.
غير أن دخول فريق الأمم المتحدة إلى دارفور (عبر تشاد)، السبت الماضي، أسقط هذه السردية دفعة واحدة. فالسيادة، في المنطق الدولي المعاصر، ليست شعاراً يُرفع، بل مسؤولية تُؤدّى، وحين تتحول إلى أداة حصار وتجويع، فإنها تفقد معناها وتُجرَّد من حصانتها.
الرسالة التي حملها هذا التجاوز شديدة الوضوح: من يعرقل تدفق الإغاثة بذريعة السيادة لا يُنظر إليه بوصفه حامياً للوطن، بل معطِّلاً متعمداً للحل الإنساني وعدواً للإنسان، ما يضعه مباشرة في دائرة الإدانة الأخلاقية والقانونية الدولية.
لم يعد العالم مستعداً لمكافأة من يحتجز المدنيين كورقة تفاوض، أو من يحوّل الجوع إلى أداة ضغط سياسي.
إن اختيار الدخول عبر المسار التشادي، بدلاً من "بوابة بورتسودان"، لم يكن قراراً لوجستياً بريئاً، بل صفعة رمزية قاسية. وهو إعلان صريح بأن العاصمة البديلة التي احتمت بها السلطة العسكرية والإسلاميون لم تعد تُعامل كبوابة شرعية وحيدة.
لقد تآكلت الثقة، وسقط الادعاء بأن التحكم في الموانئ والمطارات بوضع اليد يمنح احتكار القرار الوطني.
بهذا المعنى، لم تعد الفاشر مجرد مدينة محتضرة، بل تحولت إلى ملف دولي مباشر، انتُزع من يد الغرف المغلقة في بورتسودان، ووُضع تحت مجهر الرقابة الأممية.
وما جرى هناك ليس سوى اختبار عملي لفكرة أن السيادة المنزوعة من مضمونها الإنساني تصبح، في نظر المجتمع الدولي، سيادة منقوصة وقابلة للتجاوز.
في المقابل، يبرز قبول قوات الدعم السريع بدخول البعثة الأممية بوصفه متغيراً سياسياً لا يمكن تجاهله. ورغم جسامة الاتهامات والانتهاكات المنسوبة لها في دارفور، فإن القبول بالرقابة الدولية يضع خصومها من الإسلاميين والعسكريين في مأزق أخلاقي وسياسي عميق.
المفارقة الصارخة هنا أن الطرف المتهم بالتمرد يفتح أبوابه للإغاثة والتحقيق والمساءلة، بينما يصرّ الطرف الذي يدّعي تمثيل الدولة على الإغلاق والرفض.
وليس في هذا التحوّل الدولي أي تبرئة ضمنية لأي طرف. فالمجتمع الدولي لا يمنح صكوكا شرعية أخلاقية، بل يعيد ترتيب الأولويات على أساس واحد: حماية المدنيين أولاً.
وكل من تورّط في الانتهاكات سيبقى خاضعاً لمنطق المساءلة، غير أن من يعرقل الإغاثة ويغلق أبواب الرقابة يضع نفسه في موقع الاتهام الأثقل، لأن عرقلة إنقاذ الأرواح ليست موقفاً سياسياً، بل جريمة مستمرة.
إن ما حدث الأسبوع الماضي في الفاشر يُعد إعلاناً غير مباشر بفشل مشروع "الحرب المفتوحة" بلا سقف زمني ولا أفق سياسي.
إنها حرب استنزاف فقدت مبرراتها، وبات استمرارها عبئاً أخلاقياً على من يديرونها، أكثر من كونها خياراً سيادياً. والفاشر اليوم ليست مجرد ساحة حرب، بل مختبراً لإرادة السلام الدولية، ومؤشراً على أن ساعة الضغط الحقيقي قد بدأت.
في نهاية المطاف، لن يرحم التاريخ من جعلوا معاناة المدنيين ورقة للمساومة. فالخيانة الحقيقية لا تكمن في وقف القتال، بل في الإصرار على استمراره، بينما يموت الناس جوعاً خلف بوابات أُغلقت باسم السيادة، وفتحها العالم قسراً حين عجزت ضمائر الداخل عن فتحها طوعاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة