عَزَمَ على المغادرة، وأن يَطوِي صفحته معي، كأن الرحيل كان قراره منذ البدء، لا تردّد فيه ولا التفات.
وكم تمنّيت أن يؤجّل سفره قليلًا، فهو جزءٌ من عمري ورحلتي في اكتشاف هذا العالم، وهو أُنسي، واستمتاعي بما تبقّى لي من طاقتي الجسدية والعقلية؛ تلك الطاقة التي تنقص كلّما خاننا الزمن وغادر دون إنذار. لكنه لم يكن ممّن يحنّ، ولا ممّن يؤمن بفكرة التأجيل.
مفارقات التحوّل الأخضر
في الطريق إلى محطة المغادرة، تذكّرت وجهه وهو يبتسم ساخرًا من فرح العالم بـ«التحوّل الأخضر». كان يرى، بعين المتأمّل لا المعارض، مفارقة هذا الحلم الجديد: كيف نحتفل بتقليص الورق، فيما تتكاثر الأجهزة، ويقصر عمرها، وتزداد أعطالها، فتستهلك من الموارد والطاقة ما يفوق ما ادّعينا توفيره؟ وكيف نهرب من الوقود الأحفوري إلى طاقة نظيفة لا تقوم إلا على بطاريات، ولا بطاريات بلا ليثيوم؛ ذلك المعدن غير المتجدّد، المحصور في جغرافيا ضيقة، تُعرف بمثلث الليثيوم في بوليفيا والأرجنتين وتشيلي، حيث يقبع ثلث احتياطي العالم.
كان المهاجر يحدّثني عن «النفط الأبيض – الليثيوم» كما لو كان يحكي سيرة مادة ستعيد تشكيل السياسة قبل الاقتصاد. لم يكن مستغربًا، في نظره، أن تؤمّم المكسيك الليثيوم، أو أن يتغيّر توصيف أفغانستان الجيوسياسي مع الحديث عن امتلاكها أحد أكبر احتياطياته. حتى جائزة نوبل للكيمياء عام 2019، التي مُنحت لروّاد الليثيوم، لم تُخفِ قلق العالم من مستقبل معدن يتزايد الطلب عليه فيما يظل محدودًا في طبيعته.
البيئة وحدود الوهم التقني
لكن المشكلة، كما كان يردّد، لا تقف عند حدود الندرة لمعدن الليثيوم، بل تمتد إلى ما هو أعمق: تلويث البيئة، استنزاف المياه الجوفية، وعجز العالم حتى الآن عن إيجاد حلول ناجعة لتدوير البطاريات والألواح الشمسية. أما الطاقة الشمسية والرياح، فرغم بريقها، فهي تطلب مساحات شاسعة قد تُربك الزراعة والعمران والتوازن البيئي، إلى حدّ تشير فيه بعض التقديرات إلى أن دولًا بأكملها ستحتاج إلى ربع مساحتها لتلبية احتياجاتها من الطاقة. وهنا، كان يرى أن الدول الصغيرة والمتوسطة قد تجد في الطاقة النووية، أو حتى في الاستمرار المرحلي مع النفط والغاز، خيارًا أكثر واقعية وأقل كلفة استراتيجية.
هشاشة الإنسان المعاصر
ثم تجهم وجه المهاجر حين انتقل حديثه إلى الإنسان ذاته؛ إلى تلك الطبقة التي أسماها المفكر البريطاني غاي ستاندنج «البريكاريا»، ابنة الليبرالية الجديدة، التي وُلدت مع فتح الأسواق وخصخصة القطاعات وتعظيم أرباح الشركات، مقابل هشاشة متزايدة في العمل والحياة. كان يصف مجتمعًا ينقسم إلى نخبة سياسية-اقتصادية ثرية، وطبقة مستقرة من الموظفين والعمال، وبينهما هذه الكتلة القلقة «البريكاريا»، ذات الأجور المتقطعة، والسير الذاتية المشوّهة، والخوف الدائم من المرض وفقدان الصحة في ظل غياب التأمينات. وكان يستعرض تقسيم ستاندنج لهذه الطبقة إلى ثلاث فصائل:
الورائيون، الحالمون بالعودة إلى وظائف الماضي واستقرارها، والمائلون إلى الشعبوية والقوميات الصلبة؛ والمهاجرون واللاجئون العالقون بين حنين لا ينطفئ لأوطانهم الأصلية وصعوبات اندماج لا تنتهي؛ ثم التقدميون، الفصيل الثالث، وغالبًا هم من خريجي الجامعات، الذين يرفضون الشعبوية، ويبحثون عن إصلاحات سياسية واقتصادية تعيد المعنى لفكرة العدالة الاجتماعية. وكان يحذّر، بصوت خافت، من أن اتساع هذه الطبقة قد لا يغيّر السياسات فقط، بل قد يعيد تشكيل النظام الليبرالي الدولي بأسره.
العالم يعيد تعريف نفسه
وفي ليالٍ أخرى، لطالما همس المسافر بأفكار ألكسندر دوغين، عن عالم لا يتغيّر بالإصلاحات التدريجية، بل بالأحداث الجلل. كان يرى أن الصراع مع الليبرالية الغربية ليس اقتصاديًا فحسب، بل صراع هوية وجغرافيا، حيث تصنع الثقافة التحالفات كما تصنعها المصالح. وكما وُلد الناتو من رحم المنظومة الليبرالية الغربية، تحاول قوى أخرى بناء أقطاب دولية تستند إلى هويات ثقافية مناهضة لها، مستفيدة من تآكل الروابط الاجتماعية داخل المجتمعات الليبرالية نفسها، وصعود التيارات الشعبوية واليمينية حتى في أوطان الليبرالية الغربية. وبكلمات تحمل ناقوس الخطر، افترض الراحل بأن تكوين تكتلات ثقافية في النظام الدولي سيجعل العالم أكثر عرضةً للنزاعات والحروب.
العاصفة الأولى وتشكّل ملامح الجيل
وفي مساء ماطر، باغتنا البرد. تسلّل البلل إلى جسدي فارتجفت، وقلت له بصوت خافت: يبدو أنني كبرت، ولم يعد جسدي يحتمل قسوة هذه الأجواء.
ابتسم، ولم يُجب عن الطقس، بل أخذني إلى العمر ذاته، وإلى الأجيال التي تتعاقب كما تتعاقب الفصول. كان يقرأ الزمن لا كتقويم، بل كتجربة إنسانية، وصار يصنّف الأجيال بوصفها نتاج ظروف لا أرقام.
كان يرى أن الأجيال لا تُفهم بالأعمار، بل بالظروف التي شكّلت وعيها ونمط ومسارات تفاعلات حياتها. وعلّمني هذه السردية عن الأجيال: جيل X (1965–1980) نشأ في منطقةٍ وسطى بين عالمٍ تناظريّ راسخ وبدايات الثورة الرقمية، واتّسم أفراده بقدرٍ عالٍ من البراغماتية والاستقلالية، وهي سمات صاغتها نشأتهم في ظل تحوّلات أسرية واجتماعية لافتة، كارتفاع معدلات الطلاق، وتزايد انخراط الوالدين في سوق العمل، وتراجع النموذج الأسري التقليدي. كما شهد هذا الجيل انخفاضًا في معدلات المواليد مقارنة بجيل الطفرة السكانية Baby Boomers – مواليد 1946 حتى 1964 الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. ومن الناحية التقنية، كان جيل X من أوائل من تعاملوا مع الحواسيب المنزلية وأجهزة الألعاب ووسائط الفيديو، فغدا جيلًا متكيّفًا مع التكنولوجيا، لا مولودًا في قلبها.
أما جيل Y (1981–1996) فتكوّن مع تسارع العولمة وانتشار الإنترنت، ساعيًا إلى التوازن بين الطموح والقيم، لكنه واجه هشاشة الاستقرار الاقتصادي وتحوّل سوق العمل، ليغدو حلقة وصل بين القيم التقليدية والعالم الرقمي. وجيل Z (1997–2012) هو أول من نشأ في بيئة رقمية شبه مكتملة، يتميز بمهارات تقنية عالية وحساسية للقضايا البيئية والاجتماعية، مقابل قلق متزايد وميل إلى الابتعاد عن الأيديولوجيات الكبرى. أما جيل Alpha (2013 وما بعد) فما يزال في طور التشكّل داخل منظومة رقمية متكاملة، مرشّحًا لإعادة صياغة مفاهيم التعليم والتنشئة والتفاعل الإنساني.
وختم الراحل حديثه عن الأجيال وهو يحدّق في المطر: إن الإنسان لا يكبر وحده؛ بل يكبر معه الزمن، ويحمل كل جيل أثر العاصفة الأولى التي شكّلته.
لحن السعادة
على إيقاع الحياة، وبحثًا عن السعادة، أخذني المسافر إلى الرقص؛ رقصةٍ لا تشبه الفرح الخالص ولا الحزن الخالص، بل مزيجًا منهما معًا. رقصنا بحثًا عن السعادة بين الصحة والمال، وبين عنفوان الشباب ودفء العلاقات الإنسانية. وحين اشتد الإيقاع، لم نكتفِ بالرقص، بل دبكنا، وطرقت أقدامُنا الأرض كمن يعرف أن الحياة لا تُمنَح لمن ينتظرها، بل لمن يواجهها. وهناك، وسط التعب وضجيج الخطى، أدركت أن السعادة ليست فيما نملك ولا فيما نفتقد، بل في القدرة على الاستمتاع بالحياة ذاتها؛ أن تنسجم مع إيقاعها مهما اشتد، وأن تحوّل التحديات والصعوبات إلى حركة لا تُكسِرك، بل تُبقِيك حيًّا، حاضرًا، وقادرًا على الاستمرار والاستمتاع بالحياة.
التيه في التكنولوجيا
وكان من يعزّ عليه فراقه يميل إلى الجدل، خاصةً بشأن المستقبل، وكان أشدّ ما أثقل وداعه عنا انغماسه في هواجس المستقبل؛ إذ كان يرى في التيه التكنولوجي قدرًا لا مفرّ منه. لم يكن الخطر، في نظره، مجرّد تقلّص الوظائف بفعل الرقمنة والذكاء الاصطناعي، بل انهيار المعادلة ذاتها التي قامت عليها المجتمعات الحديثة: العمل مقابل العيش والكسب. كانت التكنولوجيا، كما كان يردّد، ستُنتج أكثر مما يستطيع الإنسان استهلاكه، فيما يتآكل دخله وتتآكل معه قيمته. ولم تعد الإزاحة مقتصرة على الوظائف الذهنية والبدنية، بل سوف تمتد إلى الوظائف العضوية الجسدية في الإنسان، حتى سيغدو الإنسان فائضًا عن الحاجة في عالمٍ تسوده الآلة والتكنولوجيا.
وفي ذروة هذا المشهد القاتم، كان يستشرف عالمًا تُرقمن فيه العُملة لا لتيسير الحياة، بل لضبطها؛ حيث ربما تُقسَّم فيه الأجور إلى حصص مقيّدة، لكلٍّ منها غاية وصلاحية، من غذاء وصحة إلى الوقود والتكنولوجيا والسلع الأخرى، في نظام لا يسمح بالادّخار ولا بحرية الاختيار. هناك، لا تُسلب الحرية دفعة واحدة، بل تُستنزف تدريجيًا، حتى يجد الإنسان نفسه حيًّا، يعمل ويستهلك، دون أن يملك حق القرار.
المحطة الأخيرة والوصية
أخيرًا، وصلتُ إلى المحطة، حيث تنذر شمس الأصيل بساعة الغروب، ساعة الرحيل. بحثت عن المسافر لأودّعه، راغبًا في أن يبقى معي قليلًا، حتى أستوعب ما مضى من عمري وما تراكم في داخلي من معرفة ووعي. رأيته يلوّح من نافذة القطار بابتسامة هادئة، غمازاته تحمل صمت الحكمة والوداع، كمن يعرف أن القادم قد لا يكون أفضل، لكنه حتمي.
ألقى ورقته الأخيرة، التقطتها قبل أن تخطفها الرياح، وقرأتها: «أحسنوا استقبال سنة 2026، فالزمن لا ينتظر أحدًا، قدّروا كل لحظة، واجعلوا الذكرى جميلة، مهما حملت من ألم أو فرح، ومن إخفاق أو نجاح، وتقبّلوها بكل أحوالها من فراق أو لقاء». وفي تلك اللحظة، علت أصوات القطارات من بعيد، كأنها تحتفل بالرحيل، وترافقه في مساره، مجسّدةً إيقاع الزمن الذي لا يتوقف، ليغدو الوداع جزءًا من الموسيقى الكبرى للحياة، ودرسًا في تقبّل التغيير واللحظة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة