إن إقامة تمثال لعامل النظافة "أبوحيدر" مبادرة فردية من بلدية النجف، نتمنى أن تُعمم لا فقط بعمل التماثيل بل بتوفير العيش الكريم
إن عادة إقامة التماثيل لزعماء وعباقرة وعلماء وفلاسفة ومؤسسين في أنحاء العالم تُشكل رموزاً لأمم ودول، وفيها رمزية عالية للوفاء والإخلاص والتثمين لهم، وها هي بلدية النجف تبادر وللمرة الأولى في العراق إلى وضع تمثال لعامل النظافة في المدينة القديمة، وهو لـ"أبوحيدر" الذي أفنى عمره في تنظيف الشوارع والطرقات، خصوصاً بعد ازدياد الوعي عبر مظاهرات الاحتجاج ضد الأحزاب الفاسدة التي هدرت حقوق العمال في الدرجة الأولى. "أبوحيدر" يستحق التكريم والتبجيل والتشريف لكن يجب أولاً الاعتراف بأهمية عامل النظافة في الحياة الاجتماعية والاعتناء به، من حيث منحه الراتب المناسب والعناية الصحية وتأمين شيخوخته لا بإقامة تمثال له يقتصر على التظاهر السطحي والاحتفاء المزيف دون دعائم قانونية صلبة. والعراق ليس البلد الأول في العالم العربي الذي يقيم تمثالاً لعامل النظافة، فقد قامت بذلك محافظة بنزرت التونسية بتشييد نصب تذكاري لعمال النظافة، وهو الأول من نوعه إلى جانب تمثال الحبيب بورقيبة وابن خلدون.
إن إقامة تمثال لعامل النظافة "أبوحيدر" مبادرة فردية من بلدية النجف، نتمنى أن تُعمم لا فقط بعمل التماثيل بل بتوفير العيش الكريم لفئة العمال؛ حيث تُهدر حقوقهم في وضح النهار
ولا تخلو تماثيل عمال النظافة من طرافة، ففي "براتيسلافا"، العاصمة السلوفاكية، دارت قصة حب بين عامل نظافة وفتاة عابرة، وسرعان ما تبادلا هذه المشاعر إلا أنها صُدمت بكون وظيفته عامل نظافة، فواعدته على شرب فنجان قهوة معه، لكنها أخلفت وعدها، وبقيّ هو في انتظارها دون جدوى، في التوقيت والمكان ذاتهما يوماً بعد آخر، لكنها لم تأت، ولتعويض عامل النظافة هذا أقامت له بلدية المدينة تمثالاً، اعتاد الناس بمسح قبعته كلما مروا بتمثاله تعاطفاً مع قصته.
إن تثمين جهود العاملين وتحفيز الأيادي العاملة من شأنه أن يرفع من شأن البلد لا الأشخاص فقط؛ لأنهم يقدمون خدمة ﻻ يمكن أن يوفى حقها أحد، فقد عانى العمال بجميع فئاتهم من الظلم المُسلط عليهم في أجور العمل، وعدم ضمان حقوقهم وافتقارهم للتأمين الصحي والحياة المستقبلية.
من البلدان التي تُثمّن عمال النظافة اليابان والصين وسلوفاكيا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا والسويد، ففي ألمانيا تتبوأ وظيفة عامل النظافة المركز الأول من بين المهن، ويشترط القانون البريطاني أن يكون المتقدم لهذه المهنة بريطانيا لا يحمل أي جنسية أخرى احتراما لتلك المهنة وتوطينها، وتشترط السويد على عامل النظافة أن يكون سويديا، بل من شروط توظيفه أن يكون حاصلاً على شھادة جامعية في البيئة، وفي الولايات المتحدة يُعتبر الحصول على وظيفة "عامل النظافة" من أصعب الأمور، حيث يتهافت عليها آلاف المواطنين كل عام، وينتظرون ثمانية أعوام.
لكن الفرق بين التماثيل المُقامة لعمال النظافة في هذه البلدان المتطورة وبين بلد كالعراق هو أولاً يجب الاعتراف بأهمية وظيفته وتكريمه مادياً ومعنوياً، وليس الاقتصار على التقليد السطحي أو الأعمى؛ لأن هذه الشريحة مظلومة وحقوقهم مهدورة، ويتم بخس جهودهم في القيمة الاجتماعية والمحفزات، ولا تكفي التماثيل لوحدها في تثمين جهودهم، فالأهم من ذلك هو تأمين حياة كريمة لهم. إن إقامة تمثال لعامل النظافة وما يتضمنها من تعبير رمزي يعبّر عن الإنسانية التي نتعامل بها مع كينونة الإنسان، ولا توجد مهنة أفضل من مهنة إلا بمقدار ما تقدم إلى المجتمع من منافع، وكما يقول المثل الفرنسي "لا تقوم الحياة إلا بجميع أنواع المهن".
مما لا شك فيه إن الحياة في مجتمع نظيف هدف تسعى إلى تحقيقه جميع البلدان؛ لأن احترام آدمية الإنسان تأتي من احترامنا للبيئة النظيفة، ولا توجد مهنة دونية، فكل المهن لها قيمتها ما دام عامل النظافة يجني رزقه بأمانة وإخلاص وشرف، ولا ينظر إلى هذه المهن بدونية واحتقار إلا في المجتمعات المتخلفة، فهو يقضي وقته من أجلنا، كي نعيش في بيئة نظيفة تشجع الآخرين على العمل في ظروف صحية سليمة.
لا يزال عامل النظافة في مجتمعاتنا يُنظر إليه نظرة بائسة وناقصة ودونيّة للأسف الشديد، مما لا تشجعه على العمل الصحيح، ولكن ازدياد الوعي لا يتم إلا بقطع أشواطٍ في التعليم، والارتقاء بنظرتنا إلى هذه المهن الاجتماعية، وهؤلاء البشر الذين يخدموننا -من عمال النظافة إلى عمال الخدمات المساعدة الأخرى- يستحقون كل الاحترام والتبجيل، ويتم ذلك كلما ارتقى المجتمع إلى درجة حضارية عليا.
لعلنا نستبشر خيراً بالاحتجاجات الشعبية العراقية الأخيرة بمطالبتها بتوفير العمل واحترام العمال وتأمين صحتهم، وضمان مستقبل الأجيال الشابة بدل الخطف والتعذيب والقتل؛ لأنهم ببساطة يطالبون بحقوقهم المشروعة، وإن إقامة تمثال لعامل النظافة "أبوحيدر" مبادرة فردية من بلدية النجف، نتمنى أن تُعمم لا فقط بعمل التماثيل بل بتوفير العيش الكريم لفئة العمال؛ حيث تُهدر حقوقهم في وضح النهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة