«حروب المناخ».. قصة «اللهو الخفي» في الصراع الدموي بالسودان
دراسة تكشف دور التصحر والجفاف في اندلاع العنف المستمر
هل يمكن أن يصل الإنسان إلى حد استغلال التغيرات المناخية في إشعال الحروب؟ وما الذي سيحدث إذا قضت الظروف البيئة على مصدر غذاء البشر؟
هذه ليست مجرد أسئلة في فيلم سينمائي ينتمى إلي فئة الخيال العلمي، ولكنها بالفعل تساؤلات علمية جاءت في تقرير علمي صدر لأحد العلماء المختصين بمجال الطاقة والصراعات الدولية، البروفيسور هاري فيرهوفن الأستاذ بكلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، والباحث في مركز سياسة الطاقة العالمية ومنظم شبكة جامعة أكسفورد الصينية-الأفريقية، وصاحب موسوعة "السياسة البيئية في الشرق الأوسط: الصراعات المحلية، والاتصالات العالمية"، والصادرة عن مطبعة جامعة أكسفورد.
البروفيسور هاري فيرهوفن، في تقريره، الذي نُشر في مجلة "Bulletin of the Atomic Scientists"، بعنوان "In Sudan, “climate wars” are useful scapegoats for bad leaders، أو "في السودان، تعتبر "حروب المناخ" كبش فداء مفيداً للقادة السيئين"، أكد على أن الصراعات الدموية التي لا تعد ولا تحصى في السودان، والمعاناة الهائلة الناتجة عنها، يعود في المقام الأول إلى التغيرات المناخية والبيئية، وأن جميع الأدلة تشير إلى أن التصحر أو الجفاف يفسران اندلاع العنف المستمر في السودان، وأن بعض القوى داخل السودان يستغلون تفاقم التغيرات المناخية، ومدى تأثيرها على المجتمعات السودانية، سبباً في تعزيز العديد من الادعاءات السياسية والعسكرية، مبينًا أن ما يحدث في السودان عبارة عن أول "حرب مناخية" في العالم.
التغيرات المناخية أحد أهم الأسباب
"دولة السودان هي الحالة الأولى لبلد مزقته الحرب، ولا شك أن التغيرات المناخية شكلت أحد أهم أسباب العنف والحرب الأهلية".. كثيرا ما ينشر الباحث والناشط الألماني هارالد ويلزر تلك الكلمات في نشراته الرسمية ومقالاته الصحفية، ولم يكن بمفرده من كتب ذلك، ففي عام 2007، كتب بان كي مون، بصفته الأمين العام للأمم المتحدة عبارة تحمل نفس المضمون، حيث قال: "إن صراع دارفور بدأ كأزمة بيئية، نشأت جزئياً على الأقل من تغير المناخ، وليس من قبيل المصادفة أن العنف في دارفور اندلع خلال الجفاف"، بل وأكد أن الصراعات الناجمة عن المناخ في السودان هي في قلب "قوس عدم الاستقرار" في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل الأفريقي، حيث تعمل التحولات البيئية على توليد أزمات الصحة العامة، والنزوح، والعنف المجتمعي والعابر للحدود.
وفي الأعوام 2013 و2018 و2020 و2022 و2023، أدت الفيضانات إلى نزوح مئات الآلاف من المواطنين، ودمرت المحاصيل في جميع الولايات الإقليمية الثماني عشرة تقريبًا، مما أدى إلى مقتل مئات الأشخاص ونفوق آلاف الماشية. ويقول الباحث أن هذا يتناقض مع موجات الجفاف التي أصبحت أكثر تواتراً وأطول أمداً - وقد ارتبطت فترات الجفاف هذه بحدود الصحراء المتقدمة، التي هاجرت جنوباً بمئات الكيلومترات بين عامي 1958 و2013. وهذا يخلق تحديات أمام غابات الأراضي الجافة، التي قالها فريق من الباحثين في مجال الحفاظ على البيئة في جامعة هارفارد. وقد وصفت جامعة الخرطوم بأنها "خط الدفاع الأول والأخير ضد التصحر جنوبا"، مما يجعلها حاسمة لاستراتيجيات التكيف مع المناخ في المجتمعات المحلية.
- 2023 عام تحطيم الأرقام القياسية في مؤشرات تغير المناخ
- سلطان الجابر ينال جائزة القيادة من أسبوع سيرا للطاقة
فالسودان كما يقول الباحث ليست دولة فقيرة. ويرى أن التحليل الأكثر دقة للعنف السياسي والتعرض للتأثيرات المناخية في السودان يركز على ما تشترك فيه هاتان الظاهرتان كسبب مشترك: الحكم البائس. وقد ساهمت عقود من السياسات الحكومية الإقصائية والاستخراجية في حدوث أزمة زراعية تمزق المجتمعات المحلية، وتجعلها والبلاد عرضة لمختلف الصدمات مثل الأطعمة السريعة، والاضطرابات السياسية في الخرطوم، وامتداد الصراع من جيران السودان.
لكن السبب وراء هذا الصراع الأخير يكمن في تجريد الملايين من المواطنين الريفيين من ممتلكاتهم، حيث تمت مصادرة مواردهم، وهذه الأزمة الزراعية ذاتها هي التي تفسر سبب ضعف قدرة المزارعين والرعاة على الصمود في مواجهة حالات الجفاف المتكررة بشكل متزايد، ولماذا خلفت الفيضانات مثل هذه الآثار المدمرة. إن المناطق الريفية في السودان ليست ممزقة بالحرب بسبب تغير المناخ. بل إنها معرضة بشدة لتغير المناخ بسبب العنف وسوء الإدارة - حيث تعمل لغة حروب المناخ والحتمية البيئية على إخفاء جرائمهم وإخفاقاتهم الواضحة.
أعلى تقلبات هطول الأمطار في العالم
"السودان دولة كبيرة جدا، وتُعد امتدادا بين شمال أفريقيا ووسط القارة، كما أن السودان أحد أكثر دول العالم تعرضًا للتغيرات المناخية، حيث أن السودان من بين البلدان الأكثر سخونة على وجه الأرض، كما إنه يشهد أيضًا بعضًا من أعلى تقلبات هطول الأمطار في العالم، وينطبق هذا على معظم مناطق شمال وغرب ووسط البلاد".. بتلك العبارات بدأ السفير السوداني الدكتور علي يوسف نائب الرئيس الدائم في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تعليقه على تقرير "حرب المناخ"، مؤكدًا على أنه في الوقت الذي عانت فيها السودان من فترات شُح في هطول الأمطار خلال الفترة من 1958 حتى 2013، ما أدى إلى ظهور تحديات أمام ما يُسمى بغابات الأراضي الجافة، وهي غابات كان يصنفها الباحثون المتخصصون في مجال الحفاظ على البيئة بجامعتي هارفارد والخرطوم، بأنها الخط الأول والأخير ضد التصحر في جنوب السودان.
وأضاف نائب رئيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة، "أن جانبا كبيرا من التقرير صحيح بعض الشيء، وإن كانت الحرب الحالية هي مجرد حرب من أجل السلطة، ولكن الواقع يقول إن التغيرات المناخية تؤثر على الحياة الاجتماعية في السودان"، مبينًا أن السودان شهد حالة من الانقلاب المناخي الحاد، حيث ساهمت التغيرات المناخية في حدوث أمطار غزيرة وفيضانات حادة في الأعوام 2013 و2018 و2020 و2022 و2023، وهو ما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من المواطنين، وتدمير المحاصيل.
تأثير التغيرات المناخية على الخريطة الطبيعية
وقد أظهرت بيانات وخرائط أطلس المناخ كوبرنيكوس، حجم تأثير التغيرات المناخية على الخريطة الطبيعية السودانية، وكيف أنها ساهمت بالتعاون مع الصراعات الأهلية على تعطيل الجهود التنموية التي حاولت الأنظمة السودانية تنفيذها، حيث أظهرت التقديرات أن ما يقرب من 12 مليون سوداني يعانون من أزمة الغذاء أو أسوأ خلال موسم الجفاف.
وأوضح الدكتور علي يوسف، إن حروب المناخ ليست مجرد مصطلح جديد على الاطلاق، فهناك مصطلحات أخرى تتحدث عن حروب المناخ مثل "حروب المياه" والتي تهدد دول حوض النيل، وبدأ إطلاقها منذ بدء مشكلة سد النهضة الأثيوبي، موضحًا في الوقت نفسه أن الأدلة التجريبية التي تثبت أن انخفاض توافر المياه والتغيرات المناخية تدفع المجموعات السكانية المختلفة إلى شن حرب فيما بينها، سواء في دارفور أو أي ولاية أخرى من السودان ضعيفة جدا، خاصة وأن بيانات الأرصاد الجوية المتاحة للسودان لم تقدم أي معلومات كاملة أو دقيقة.