يعرف الجميع عن الشعب السوداني أنفته وكبرياءه، لكن ما فعله النظام السابق كان يفوق التوقعات وقد أضر بما لدى هذا الشعب الأبي من سمعة طيبة.
مرحلة جديدة دخلها السودان منذ تاريخ الحادي عشر من شهر أبريل.. تنفس الشعب الصعداء وذرف دموع الفرح حين بزغ فجر الخلاص من قيود الفساد والظلم والقمع والاستبداد، لم يكن يتخيل كثيرون أن هذه الانتفاضة هي انتفاضة محلية خالصة دافعها فقط التحرر من الغبن والقهر والظلم والاستبداد الذي أحدثه نظام الإنقاذ الإخواني الذي تمكن من خداع العالم لسنوات طويلة وأوهمه بأن البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية تتسبب في تصدع اقتصاده وهو في الحقيقة مَن كان يتآمر عليه طيلة 30 عاما خلت.
أخيرا يجب على الأشقاء أن يبثوا رسائل طمأنة للمتشككين أو المتخوفين من أي موقف قد يشكل مصدر قلق لهم، ليقطعوا الطريق أمام الدول التي تنتهج سياسات التخويف والتشكيك وتستثمر في موقف لا يستهان به من غير المهتمين بالسياسة الذين يعمل دعاة الفتنة والضلال على استقطابهم.
يعرف الجميع عن الشعب السوداني أنفته وكبرياءه، لكن ما فعله النظام السابق كان يفوق التوقعات وقد أضر بما لدى هذا الشعب الأبي من سمعة طيبة وخصال حميدة يعرفها عنه القاصي والداني. خلال الثلاثين عاما المنصرمة تصرف النظام بعدم مسؤولية في خيرات البلاد بعد أن جنّد قطاعا عريضا من الشعب وفرض عليه أنظمة جبايات مرهقة قصمت ظهره وذهبت إلى جيوب أولئك الفاسدين.
تخيلوا مثلا أن الشعب مفروض عليه أن يدفع رسوما إجبارية سنوية تحت اسم الزكاة وإن لم يدفع فقد لا يتمكن من إتمام إجراءات حكومية، وللأسف كانت تذهب أموال الزكاة لمؤسسة لا تحمل من اسمها نصيبا "ديوان الزكاة" الذي يفترض أن يحرص على توفير احتياجات المواطن من خدمات صحية واجتماعية وغيرها. إلا أن الحقيقة أن المواطن السوداني كان يموت لعدم قدرته على دفع تكاليف الخدمات الصحية المرتفعة على سبيل المثال.
هذا فضلا عن الأذى الذي لحق بالسودان دولة وشعبا بسبب تهور ورعونة الإسلامويين الذين تعاملوا مع كل من خالفهم الرأي بمبدأ الإقصاء بل الإبادة بالسلاح فأشعلوا حروبا أهلية طاحنة راح ضحيتها أكثر من مليونين ونصف المليون في الجنوب قبل انفصاله. إضافة إلى تعامله مع ملف الإرهاب الدولي بكثير من الاستخفاف وبطريقة تثبت كل النظريات التي تربط بينهم وبين تبنيهم للإرهاب من منطلقات فكرية وعقدية، ويذكر الجميع كيف استضاف النظام السابق بن لادن طمعا في حفنة من الدولارات.
بعد أيام من دخول البلاد حيز العهد الجديد، فإن هناك الكثير من الأمور الإيجابية التي يجب أن يركز عليها السودانيون جميعا ويتكاتفوا في اتجاه تنميتها وتعزيز قواعدها حتى يسهل الوصول إلى مبتغى وهدف هذا الحراك الذي انطلق لتصحيح كثير من الأخطاء الجسيمة التي تسببت في حلول السودان في مقدمة الدول الأكثر فسادا في العالم!
أما بالنسبة للسلطة القائمة على شؤون البلاد حاليا والمتمثلة في المجلس العسكري، فيجب عليه أن يحافظ على الأجواء الإيجابية لعودة هذا البلد المهم إلى خارطة الإقليم والعالم اقتصاديا، حيث ستحقق البلاد الكثير من المكاسب في العلاقات الثنائية الجديدة. فالسودان بحاجة ماسة لأن يعود عضوا فاعلا في المجتمع الدولي وأن يتمتع أبناؤه بالحقوق الفردية في أي مكان في العالم والتي هي حق من حقوق الإنسان. وليتحقق ذلك يجب على المجلس أن يسرع في تحقيق المطالب الشعبية التي تضمن سير عملية التحول.
المؤشرات جميعها تقول إن السودان قاب قوسين أو أدنى من التحرر من قيود العقوبات الدولية لا سيما الأمريكية منها، وقد جددت الولايات المتحدة مؤخرا نيتها إزالة السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، ورفع القيود على بعض المساعدات الدولية بشرط حدوث تغييرات جوهرية أهمها نقل السلطة للمدنيين. كما يأمل السودانيون من الولايات المتحدة والقوى الإقليمية أن يتعاملوا معهم في الأيام القادمة بقدر كبير من الثقة مع أن ذلك مطلب صعب بعض الشيء، لأن السياسة لا تعرف العواطف والمعنويات بل الماديات والمصالح، ولكن في الحالة السودانية فإن الثقة مطلوبة حتى تكون جسرا للعبور إلى المصالح المرجوة.
وبما أن هناك آراء تطغى على الساحة السياسية الداخلية والإقليمية حول حقيقة مواقف دول الإقليم وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات التي سارعت للترحيب بخيارات الشعب السوداني وتطلعاته نحو مستقبل زاهر ورحبت بقرارات المجلس العسكري وتعهداته بنقل السطلة لحكومة مدنية، فإنه لا بد من تسليط الضوء على بعض تلك الآراء التي ذهبت في اتجاه تفسير هذه المبادرة على أنها مدفوعة بأطماع لهذه الدول في السودان وخيراته أو ربما للسيطرة على قراره السياسي، أو لضمان الإبقاء على القوات السودانية المشاركة ضمن قوات التحالف العربي في اليمن وما يشكله ذلك من عبء على السودان أو غيرها من الآراء المشابهة.
والرابط بين ما سبق من آراء هو النظرة السلبية لما وراء مواقف الدول الثلاث المتوقعة وغير المستغربة، فالسودان كان يعاني منذ وصلت حكومة "الإنقاذ" إلى السلطة في عام 1989، ولو حسبنا بالأرقام ما قدمته السعودية والإمارات من مساعدات متتالية لوجدنا أن التركة ثقيلة، والحق يقال إنه لم توظف تلك الديون في لي ذراع السودان سياسيا في أي من الملفات حتى وقت أن أدار النظام السوداني ظهره للأشقاء في تحالفه مع إيران في فترة من الفترات وقبل ذلك تحالفه ودعمه لـ"بن لادن" وقبل ذلك وقوفه مع صدام في اجتياحه للكويت، وموقفه المخجل في ليبيا وتصريحه بدعم مليشيات القاعدة في الإطاحة بالقذافي وكذلك احتضانه لإخوان مصر وغيرهم من الجماعات المتطرفة التي استثمر في تحالفه معها وتورطه في محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا، وموقفه المتأرجح من دعم قطر لجماعات التطرف والإرهاب في المنطقة.
ومع ذلك كان همُّ الأشقاء متركزا على الإبقاء على سُبل الحياة متوفرة لهذا الشعب الكريم.. وفيما يتصل بقوات السودان الموجودة في اليمن فإن هذا الأمر خاضع لاتفاقيات دولية وقع السودان عليها ويجب ألا يُعطى الأمر أكبر من حجمه فليست غاية دول التحالف أن تستمر المعركة أكثر، بل إنها تعلن ليل نهار أن الهدف هو إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن. وبالتأكيد لن تكون هناك ممانعة في حال قرر السودان الانسحاب أو إعادة تشكيل قواته ضمن التحالف.
من المهم أن يسعى الجميع في الداخل السوداني لإعادة تشكيل علاقات السودان الخارجية مع الإقليم عبر المحافظة على أواصر الود التي لم تنقطع يوما بين شعب السودان وشعوب دول المنطقة مهما طرأت تغييرات على المستويات الرسمية.
وفي تقديري فإن مبادرة الدول القوية في الإقليم لتعزيز علاقاتها بالسودان قبل غيرها دليل على أهمية السودان كلاعب رئيسي في اقتصاد المنطقة في المستقبل القريب. كما أن ذلك التحرك يدلل على أهمية وأزلية العلاقات التي لم تتأثر بمنغصات السياسة كما أسلفت وفي تاريخ المنطقة ما يذكره الأشقاء لبعضهم من المواقف الإنسانية التي يجوز البناء عليها في تفسير هذه المواقف الإيجابية المتجددة والتي تميز هذه العلاقة الودية ولا يفهمها أو لا يريد تفهمها أرباب الأيديولوجيات التي تحث على الكراهية والتفرقة ويعملون بكل ما أوتوا من قوة على تحييد الجانب الإنساني من قراءاتهم التي يبنون عليها مواقفهم المعادية للسياسات المدفوعة بالقيم والمثل الإنسانية الرفيعة.
وأخيرا يجب على الأشقاء أن يبثوا رسائل تطمين للمتشككين أو المتخوفين من أي موقف قد يشكل مصدر قلق لهم، ليقطعوا الطريق أمام الدول التي تنتهج سياسات التخويف والتشكيك وتستثمر في موقف لا يستهان به من غير المهتمين بالسياسة الذين يعمل دعاة الفتنة والضلال على استقطابهم بأساليب وألوان جديدة تواكب المتغير الراهن. وربما من المناسب أن أختم بالمثل العربي المعروف من جاور السعيد يسعد وفي السياسة كذلك من تحالف مع القوي يقوى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة