هل تقلصت خيارات النخبة السودانية، العسكرية والمدنية والمجتمعية، ولم يعد من سبيلٍ لديهم لإحداث انطلاقة جديدة في المسار السياسي؟
يحضر هذا السؤال متزامنا مع الخشية من عودة الصراعات المناطقية، والقلق من تجدد مظاهر العنف الأهلي، بعد أن بدا جليا تراجعُ الحراك السياسي على مستوى مؤسسات السلطة الانتقالية الحاكمة، سواء أكان بينها وبين المكونات الحزبية والسياسية والمجتمعية، التي تقف على الطرف الآخر من جانب، أو بين تلك المكونات والتيارات الشعبية المنادية برفض الأمر الواقع والعودة إلى الحكم المدني من جانب آخر.
الاحتقان المتنامي بات يظهر بين صفوف الجميع، السلطة ومكوناتها، والقوى والتيارات المناهضة على حد سواء.
الخطاب الذي يتبناه الجميع حتى الآن أبعد ما يكون عن طروحات ديناميكية تصلح للبناء عليها أو على بعض زواياها، بحيث تكون رافعة لمدماك آخر في البناء.
ثمة تعارض بين طروحات الأطراف السودانية بشأن حلحلة الأزمة السياسية المستعصية، فبين متمسك بما يراه سبيلا ناجعا للخروج من الأزمة دون الاستعداد لأخذ مطالب أنداده، أو على الأقل بعضها، بعين الاعتبار، وبين من يعتبر أن الوثيقة الدستورية، التي كانت إطارا للمرحلة الانتقالية بالشراكة بين المكونين المدني والعسكري، هي الأساس الوحيد للخروج من عنق الزجاجة.
قد يبدو الطرفان على حق حين يتعلق الأمر بمناكفات حزبية محدودة، لكن ما دام الاستعصاء السياسي يتعمّق، ونُذر التصعيد في الساحات تلوح في الأفق، وبعضَ القوى والمجموعات تستغل تراجع سلطة الدولة عن بعض المراكز والأقاليم لتنفيذ أعمال إجرامية، فإن القول بأن كل طرف بات يحتاج إلى إجراء مراجعة ذاتية لمواقفه والبحث عن نقاط التقاء مع الآخر، التقاء يصبح منطقيا أكثر.
في معظم منعرجات الوضع السوداني أطلّت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي على المشهد. قدّم بعضها مقترحات تأسيسية لحوار شامل بين القوى والتيارات السودانية.. لم تتمكن أيٌّ منها من إيصال السفينة السودانية إلى مرافئ الاستقرار، وذلك لأسباب يتعلق بعضها بأساليب ممثليها ودورهم، وأخرى مرتبطة بتعقيدات الوضع الداخلي والتجاذبات التي تتحكم في مواقف الأطراف وتوجهاتها، وبالتناقضات المتجذرة في تصورات كل طرف لشكل وصيغة ودور العهد الجديد.
هل يستطيع السودانيون كسر الحلقة المغلقة، التي باتت تمثل إطارا معتمدا للجهود الأممية في إدارة ملفات النزاعات المتفجرة داخل هذه الدولة أو تلك؟
أولى المعاني المستخلصة من تدخل الهيئات الأممية أو الإقليمية في النزاعات الداخلية، ومن خلفها الدول الراعية والداعمة لمهماتها، هو أن الأطراف المحلية أعجز من أن تكون قادرة أو مؤهلة لاجتراح حلول أو تفاهمات أو اتفاقات بين بعضها. في غالبية النزاعات الداخلية تتوسع دائرة المحرضات على الصدام السياسي والعسكري، على حساب البحث عن نقاط التقاء تجنّب الدولة والمجتمع مخاطر تكون في بعض الحالات ذات طابع وجودي.
نظام البشير المخلوع ترك للشعب السوداني إرثا من العداوات والنزاعات العرقية والجهوية والحزبية على امتداد البلاد شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. لم يعد السودان، دولة وشعبا، قادرا على خوض معارك إضافية. الصراع السياسي القائم تتفرع منه اليوم سياقات ومسارات لا تخلو من مخاطر على الجميع.
الطريق الثالث يبدو الأكثر سلامة لدولة تتربص بها أطماع كثيرة وتواجه تحديات اقتصادية وأمنية تتضخم يوما بعد آخر. مبادرات داخلية ومبادرات داخلية مضادة، بعضها خجول لم يكتب له النجاح، وبعضها يتجاوز مقومات الواقع القائم فلا يلقى الاهتمام، لكن ليس مستحيلا بلورة قواسم مشتركة بينها، وإعادة تأهيل ما هو جامع منها وتحويلها إلى طاولة حوار تتقاطع عندها الرؤى والطروحات، وتُفضي في النتيجة إلى مسارات عمل مشتركة يتوحد فيها الجميع وتنصهر عبرها التناقضات وصولا إلى تكوين جسم جديد للسلطة يلبي متطلبات ومطالب مختلف الأطراف.
لا غَرْوَ في قول إنّ كل يوم يمر على السودان، دولة وشعبا، دون العمل من أجل وضع حد للتدهور الحاصل، ودون الإسراع في إنجاز حلول تكون مدخلا لتهدئة خواطر الجميع، سيكون عنصر تعقيد إضافياً للأوضاع وتأزيم لها، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا واجتماعيا. الجمود في مؤسسات المجتمع السوداني، الحكومية منها والأهلية، يصاحبه غموض يلف مشهد الغد السوداني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة