في قلب الخراب، حيث تنام الخرطوم على أزيز الرصاص وتصحو على أنين الجوعى والمشرّدين، ارتفع صوتٌ مغاير من الخارج، لا تصدره المدافع ولا تصوغه البيانات الجوفاء، بل تصوغه المعاناة وتكتبه دماء الأبرياء.
نداءٌ لا يشبه سواه، خرج من رماد الوطن كصيحة استغاثة وكشفِ حسابٍ متأخّرٍ لعقودٍ من الخديعة. إنه نداء التحالف المدني الديمقراطي (صمود)، بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس وزراء حكومة الثورة المنقلب عليها.
نداء التحالف، الصادر أمس الأول، لا يكتفي بتوصيف المأساة، بل يسميها باسمها، ويطالب — بجرأةٍ طال احتباسها في الحلق — بإدراج الحركة الإسلامية السودانية، وحزبها (المؤتمر الوطني)، على قوائم الإرهاب الدولية.
قد يقرأ المتعجل هذا المطلب بوصفه فعلًا سياسيًا صرفًا، لكنه في جوهره أعمق من ذلك. إنه سعيٌ لتقنين العدالة، لتوصيف الألم بأدوات القانون الدولي، ولكسر استثناءٍ سودانيٍّ مكّن واحدًا من أكثر الأنظمة بطشًا من التخفي لعقودٍ خلف أقنعة الدين والتقاليد.
منذ انقلاب الإسلاميين — الأول — في عام 1989، لم يكن ما شهدته البلاد مجرّد استبدادٍ سياسي تقليدي، بل نظامٌ اجتهد لاقتلاع المجتمع من جذوره: قمعٌ ممنهج، إبادةٌ في الهامش، تنكيلٌ بالمخالف، وتكريسٌ لفكرة احتكار “الحق الإلهي” في الحكم. وحين أطاحت الثورة الشعبية بهذا النظام في ديسمبر المجيد، لم تسقط معه شبكته العميقة، بل بقيت خلاياه تتكاثر في الظل، متربّصةً بكل خطوة نحو الديمقراطية، خصوصًا داخل الجيش والأجهزة الأمنية.
أن تطالب جهة سياسية اليوم — في خضمّ الفوضى والموت — باعتبار تلك المنظومة كيانًا إرهابيًا، لا يعني مجرّد تسمية القاتل، بل فضح سلاحه، ومنهجه، ومحرّكه العقائدي. إنها لحظة مواجهة مع سردية كاذبة سوّقت الإسلاموية بوصفها مشروعًا أخلاقيًا — تجد، للأسف، سندًا إقليميًا — بينما هي، في تجربتها على الأرض، لم تكن سوى منظومة قتلٍ وعنفٍ وفسادٍ وهيمنةٍ وتمييزٍ ممنهج.
لم يكتفِ بيان التحالف بالاستناد إلى الذاكرة الجمعية، بل وضع ملفًا دامغًا: من رعاية تنظيم القاعدة الإرهابي، إلى مذكّرات القبض على قادة النظام للمثول أمام المحاكم الدولية؛ من تفجير السفارات إلى التطهير العرقي، ومن التنكيل بالنساء إلى توظيف الدين وقودًا لحربٍ لا تنطفئ. بهذا المعنى، فإن تصنيف هذه المنظومة ليس خصومةً سياسية، بل تحصينٌ لمستقبل السودان من تكرارٍ كارثيٍّ لن يسلم منه أحد.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في إقناع العالم، بل في إقناع الذات السودانية أولًا، أن التصالح مع الماضي لا يعني طيّه، بل مواجهته ومساءلته. فلا سلام يمكن أن يولد من رحم الإفلات من العقاب، ولا انتقال ديمقراطي يستقيم بوجود حركة ترفض الدولة الوطنية وتؤمن بالسيطرة المطلقة باسم الله، الرحمن الرحيم!
هذه الدعوة لا تهدف إلى الإقصاء لأجل الإقصاء، بل إلى فرزٍ ضروري بين من يقبل العيش في دولة مدنية تعددية، وبين من يرى الديمقراطية كفرًا، والتنوع لعنة، والسلام خيانة، وتهديد أمن واستقرار دول الجوار والمنطقة. ولهذا، جاء مطلب حظر حزب المؤتمر الوطني من ممارسة العمل السياسي بردًا وسلامًا على السودانيين الذين أنهكتهم دورات الموت والعنف والاستبداد.
إنها لحظة رسم الحدود بين السياسة والإرهاب، بين الفكر والنفي، بين الشراكة والتهديد.
السودانيون، وهم يدركون أن (إخوان السودان) — بدمائهم المسفوحة وفسادهم وخطابهم المتلبّس بالدين — يتحوّلون في سبيل بقائهم إلى أدواتٍ لأيدٍ خفيّة تتحرك في ظلمات المصالح الإقليمية والدولية، لذا فإنهم لا يطلبون من العالم معجزة، بل يطالبون بحقّ بسيط: ألا تُقاس دماؤهم ثمنًا لتلك الصفقات، وألا يدفع وطنهم ثمن تواطؤ يهدّد أمنه ووحدته، وأن يُحترم حقهم في العيش في وطنٍ يليق بآدميتهم، تسوده الديمقراطية، وتحميه كرامة العدل وسقف الحريات.
نتمنى أن يجد هذا النداء أذنًا صاغية في العالم الحر، ذلك الذي خبر الوجه الحقيقي لتنظيم الإخوان المسلمين، واكتوى بنار إرهابهم ومكرهم المقنّع بثوب الدين، وأن يجد صداه كذلك لدى دول الإقليم، وفي مقدّمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي كانت، وما تزال، في طليعة من واجهوا هذا الخطر الماحق بالإنسان والهوية والاستقرار.
فليكن ما أدركه الآخرون، ولو بعد فواتٍ موجِع، بدايةً لإنقاذ ما تبقّى من السودان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة