ثمة تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يقول إن بريطانيا ستكون أضعف اقتصاديات مجموعة السبع العام المقبل.
الترجمة الواقعية لما يقوله التقرير هي ليس أن المملكة المتحدة سوف تتحول إلى دولة فقيرة في 2023. وإنما ستتراجع قوتها الاقتصادية، ويتراجع معها نفوذ الدولة ومشاركتها في السياسة الدولية. لن يكون بإمكان بريطانيا توسيع رقعة نفوذها عبر المساعدات الخارجية. أو فرض وجهة نظرها السياسية والعسكرية في مجريات الأحداث حول العالم، من خلال الدعم المالي لمن يهمها، أو يلبي مصالحها.
من أبرز ارتدادات المأزق الاقتصادي على السياسة الخارجية، يأتي تأجيل الحكومة لقرار زيادة الإنفاق العسكري حتى العام المقبل. البيانات الرسمية تقول إن الحكومة تراجع الآن احتياجات الأمن القومي ومتطلبات العمل والمعيشة في الداخل. ولكن الحقيقة أنها تخشى تقديم أولوية الدفاع على قوة البريطانيين.
والمشكلة الاقتصادية في بريطانيا تحمل شقين أولهما خارجي يرتبط بأزمة اقتصادية عالمية محمولة على الحرب الأوكرانية ونقص التضخم وارتفاع معدلات التضخم. والثاني داخلي مصدره الخروج المضطرب للبلاد من الاتحاد الأوروبي، وتزامنه مع جائحة كورونا، بكل ما حملته من إخفاقات مالية ومعيشية للجميع.
الأصوات المنددة بـ "بريكست" تتعالى وتتزايد كل يوم في المملكة المتحدة. ومن كان ينتقد الخروج بحياء قبل أشهر، بات الآن يجهر بامتعاضه ويعلن عن خيبة الأمل إزاءه. ليس فقط عامة الناس، وإنما ساسة وإعلاميون وخبراء أيضا، يقولون إن طلاق لندن وبروكسل لم يحقق الطموحات ولم يسر على خير ما يرام.
عمدة لندن العمالي صادق خان قالها صراحة قبل بضعة أيام. خرج عن صمته وكتب على صفحة فيسبوك إن "بريكست" لم يحمل الخير للمملكة المتحدة. أما الردود على منشوره فحملت التأييد في غالبيتها، لأن الواقع لا يمكن تضليله وما يعيشه البريطانيون يبوح كل يوم بما حمله الخروج من تأثير سلبي على البلاد.
التباين بشأن "إخفاق" الخروج وصل إلى حزب المحافظين الحاكم. فباح بعض كبار قادته عن توجه نحو تبني النموذج السويسري لعلاقة مستقبلية مع الاتحاد الأوروبي. لكن رئيس الوزراء رفض هذا التوجه وندد به. كما قال إن حكومته لن تغير خطة "الخروج" ولن تتراجع عن إنجازه بكل معنى الكلمة.
ما قاله ساسة كبار في الحزب الحاكم حول النموذج السويسري، ونقلته صحيفة الصنداي تايمز قبل أيام، لم يأت من فراغ. فالمملكة المتحدة تعاني بشدة من آثار "بريكست" على عدة مستويات أبرزها الاقتصاد. وما خسرته البلاد تجاريا وصناعيا بسبب الخروج، لم تستطع حكومات المحافظين تعويضه حتى الآن.
بعد "بريكست" لم تنجح لندن بإبرام اتفاقيات تجارة حرة مع أي دولة أو تكتل حول العالم. كما أنها لم تستطع فتح أسواق جديدة أمام صناعات المملكة المتحدة. وقد أخفقت أيضا في جلب الاستثمارات الأجنبية. ناهيك بتداعيات أزمة الطاقة والخطط الاقتصادية الفاشلة التي أطلقتها رئيسة الحكومة السابقة ليز تراس.
الحل من وجهة نظر كثيرين في المملكة المتحدة يتلخص بالعودة إلى السوق الأوروبية الموحدة. ولكن حكومة ريشي سوناك تقول إنها لن تقبل بأي علاقة مستقبلية مع بروكسل يكون الناظم لها قوانين الاتحاد الأوروبي وليس التشريعات البريطانية أو الدولية. فذلك فيه "تراجع" عن الخروج الذي اختاره البريطانيون.
ولا يبدو أن الموقف الحكومي حيال العلاقة مع الاتحاد الأوروبي نابع عن توجه للأكثرية إزاء "بريكست". صحيح أن كثيرين لا زالوا يؤيدون الخروج، ويصرون على تنفيذه. ولكن هؤلاء لا يعتقدون أن حزب المحافظين الحاكم قد أنجز المهمة بطريقة صحيحة، ويتوجب عليه مراجعة أدائه وإعادة التفاوض مع بروكسل.
استطلاعات الرأي تقول إن فئة ممن صوتوا لصالح الخروج عام 2016 تغير موقفهم. لا توجد إحصاءات دقيقة لتمييز نسبة هؤلاء بين المؤيدين لـ "بريكست" إلى يومنا هذا، ولكن خطط اسكتلندا للانفصال عن بريطانيا، وتعطل الحياة السياسية في إيرلندا الشمالية، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تعيشها المملكة المتحدة في الوقت الراهن، كلها مظاهر أثرت بلا شك على رأي البريطانيين بالخروج.
ما حمله "إعلان الخريف" حول الخطة الاقتصادية الحكومية حتى نهاية العام المالي، يقول إن أزمة المملكة المتحدة لن تنتهي قريبا. وقد تشهد البلاد مزيدا من التراجع في النمو خلال 2023. وهو ما قد يضطر الحكومة لفرض ضرائب جديدة تدعم الخزينة، في حين تحتاج كثير من القطاعات إلى زيادة الإنفاق والدعم.
المشكلة هي أن الإخفاق في معالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة، قد يدفع رئيس الوزراء نحو البحث عن شماعة لتعليق فشله عليها. ولكن سمعة حزب المحافظين الحاكم قد تداعت إلى حدود بعيدة هذا العام بسبب تبدل قياداته وأخطاء قادته. وبالتالي يصعب على سوناك العثور على ذريعة تحميه وحزبه من السقوط المدوي.
ويتوقع البعض أن يهرب سوناك من الأوضاع الداخلية السيئة نحو أزمات خارجية. ولكن الأمر لن يكون سهلا، وخاصة إن عجزت بريطانيا عن دعم سياستها وأجندتها حول العالم بسبب الوضع المتردي للاقتصاد الوطني. وحين يخسر المحافظون الداخل والخارج يصبح فشلهم في الانتخابات المقبلة أمراً لا مفر منه.
ولا شك أن جميع أحزاب البرلمان يترقبون انهيار "المحافظين" وفشلهم في إدارة البلاد بعد "بريكست". لكل أسبابه وغاياته، ولكن حزب العمال سيكون المستفيد الأكبر كونه المرشح لتولي السلطة. خاصة وإن استطلاعات الرأي تقول إن "العمال" يتفوقون بفارق كبير في نوايا التصويت للانتخابات العامة في 2024.
لم يبح زعيم العمال الحالي كير ستارمر بأي خطط لتغير مسار "بريكست" أو التراجع عنه. هو يعرف أن الظرف قد تغير، والبريطانيون الذين عاقبوا "المتخاذلين" عن الخروج قبل ثلاث سنوات قد يؤيدون إعادة النظر به اليوم. ولكنه رغم ذلك، لن يغامر بما حققه "العمال" من مكاسب سياسية هذا العام، ولن يكرر خطأ سلفه جيرمي كوربين الذي تردد إزاء الخروج فألحق بحزبه هزيمة مدوية عام 2019. وكما يقول جورج برنارد شو "النجاح ليس عدم فعل الأخطاء، وإنما عدم تكرارها".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة