أسعار الفائدة هي السلاح الأسهل والأسرع للبنوك المركزية في العالم لترويض معدلات التضخم "المتسارعة"، لكن الركود المصاحب.. كيف تعالجه؟
اليوم، لدينا تضخم لم نشهده منذ 40 عاماً وفي بعض البلدان المتقدمة هو الأعلى تاريخياً، في حين أن البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ترفع أسعار الفائدة بقوة لمحاولة ترويض التضخم المرتفع على مدار عقود من الزمن، الأمر الذي أدى إلى تشديد الأوضاع النقدية العالمية.
ومع تباطؤ معدلات التضخم خلال أكتوبر/تشرينالأول في أمريكا لتسجل أقل زيادة منذ يناير/كانون الثاني، حيث ارتفع بنحو 7.7% على أساس سنوي، وهو أول ثمار يحصدها الاحتياطي الفيدرالي منذ أن بدأ في تسريع التشديد النقدي برفع أسعار الفائدة.
ومع تباطؤ التضخم في نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 7.1% على أساس سنوي، استجاب الفيدرالي الأمريكي وبدء تهدئة وتيرة التشديد النقدي ليرفع اسعار الفائدة مساء الأربعاء بـ50 نقطة أساس، وتوقع رفع تكاليف الاقتراض 75 نقطة أساس أخرى على الأقل بحلول نهاية عام 2023، كما توقع زيادة البطالة وتوقف النمو الاقتصادي تقريبا.
وجاء توقع المركزي الأمريكي بارتفاع سعر الفائدة المستهدف على الأموال الاتحادية إلى 5.1 بالمئة في عام 2023 أعلى قليلا مما توقعه المستثمرون قبيل اجتماع الاحتياطي الاتحادي هذا الأسبوع.
وهو ما يمنح الأمل للمستثمرين في أن يبدأ المركزي الأمريكي في تقليص زياداته الحادة لأسعار الفائدة، والتي استهدف منها كبح معدلات التضخم والتي سجلت أعلى مستوياتها منذ 4 عقود في يونيو/حزيران الماضي حينما تجاوزت 9.1%.
في المقابل، توقع صندوق النقد أن يواجه النشاط الاقتصادي العالمي حالياً معدلات تضخم مرتفعة لم يشهدها منذ عقود بالتزامن مع تباطؤ اقتصادي واسع النطاق.
ووفقاً لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي الأخير، فقد توقع الصندوق أن يصل معدل التضخم العالمي إلى 8.8% في العام 2022 مقابل 4.7 في المائة في العام 2021، على أن ينخفض إلى 6.5% في العام 2023.
وهو ما دفع الرئيس الصيني شي جين بينج، ليطلب من دول العشرين الثرية بالحد من التداعيات السلبية لرفع معدلات الفائدة، وضمان استقرار الديون لتبقى عند مستوى مستدام.
خاصة بعد أن رفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة لأعلى مستوى لها منذ ما قبل أزمة 2008 المالية في وقت يسعى للحد من ارتفاع معدلات التضخم والنزول بها إلى المستوى المستهدف وهو 2%، مقابل 8.1% خلال سبتمبر/ أيلول الماضي.
وأدى هذا التحرّك النقدي الأمريكي إلى ارتفاع قيمة الدولار إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقدين، ما شكّل ضغطا على الاقتصادات النامية التي تعتمد على الواردات وتحاول هي أيضا الحد من التضخم.
فهل زيادة أسعار الفائدة تكفي لترويض التضخم أم أننا نحتاج لأدوات أخرى في الوقت الراهن؟.. عندما يتعلق الأمر بمستويات التضخم المرتفعة فإن العلاج السريع هو رفع أسعار الفائدة، لكنها تحتاج إلى إجراءات أخرى حتى لا تفقد قدرتها مع مرور الوقت في تحقيق نتائجها المرجوة.
ويمكن بالتوازي مع أسعار الفائدة زيادة الضرائب للحد من الاستهلاك، والإنفاق أكثر على التعليم والبنية التحتية لتحسين الإنتاجية، ومساعدة الصناعات المتعثرة، مع ملاحظة أن هذه الإجراءات تأخذ وقتا حتى تبدأ نتائجها في الظهور.
كما أن الوقت عامل جوهري عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على التضخم، وبالتالي رفع أسعار الفائدة تأتي نتائجه أسرع، خاصة وأنه يرفع تكلفة اقتراض الأموال وهو ما يهدئ الطلب بشكل أسرع نسبيا، حيث يكون عدد المستهلكين والشركات المتنافسة على الإمداد المتاح من السلع والخدمات أقل، وبالتالي ستعتدل الأسعار خلال فترة وجيزة.
لكن الفائدة قد تقود إلى تباطؤ الاقتصاد الذي من الممكن أن ينقلب إلى ركود وبالتالي مزيد من البطالة والأسر ذات الدخل المنخفض، وهو ما عكسته تصريحات جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي، حينما قال "بأن الطريق أمامنا قد يكون محفوفا بالمخاطر، وأن أسعار الفائدة المرتفعة ستؤدي إلى انخفاض التضخم، إلا أنها ستجلب أيضًا بعض الألم للأسر والشركات".
لكن محافظي البنوك المركزية يعتقدون أنه حتى لو كان من الصعب تحمل المخاطر، فإنها ضرورية، فالانكماش الذي يدفع البطالة إلى الارتفاع سيكون مؤلمًا بلا شك، لكن التضخم يمثل أيضًا عائقًا رئيسيًا للعديد من الأسر اليوم، وبالتالي فإن السيطرة على التضخم أمر بالغ الأهمية لإعادة الاقتصاد إلى مسار مستدام.
التضخم كان يضغط على الأمريكيين على مدار الـ12 شهرا الماضية، وبالتالي ظل الاحتياطي الفيدرالي متمسكا برفع أسعار الفائدة، وهو الإجراء الرئيسي المضاد لكبح ارتفاع الأسعار، لكن مع ظهور علامات مبكرة على استجابة التضخم، قد يبدأ الفيدرالي في إبطاء معدلات رفع الفائدة.
خاصة وأن تقرير أكتوبر لأسعار المستهلكين هو بالضبط ما كان يبحث عنه الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما أشار إليه بالفعل في اجتماع نوفمبر، قائلا إنه قد يبطئ وتيرة رفع أسعار الفائدة في ديسمبر.
والتضخم الحالي الذي يضرب اقتصادات العالم يختلف قليلا عما كان عليه في العقود الماضية، لأسباب عديدة منها الحرب في أوكرانيا وتحديات الطلب في زمن الجائحة وصراع سلاسل الإمداد لمواكبة وتيرته، ما أحدث تشوهات في جانب العرض والطلب، وهو ما يفسر لماذا لا يزال التضخم مرتفعا بالرغم من أسعار الفائدة التي لم يشهدها العالم منذ عقود.
كما أن الصدمات غير المتوقعة للاقتصاد العالمي أدت تلقائيا إلى تفاقم الأمور، لا سيما المتغيرات اللاحقة لـ COVID-19 وعمليات الإغلاق في الصين (التي تقيد توافر السلع في أسواق العالم) وحرب روسيا في أوكرانيا (التي تؤثر على أسعار الغاز والغذاء)، بالإضافة إلى القضايا بين الولايات المتحدة والصين ما يؤثر على التجارة العالمية.
ويشعر الكثير من المستثمرين بالقلق من أن الزيادات الإضافية في تكلفة اقتراض الأموال قد تؤدي إلى انكماش الاقتصاد أكثر من اللازم، ما قد يؤدي بنا إلى الركود.. إن الوضع أكثر تعقيدًا للسيطرة على التضخم، والسياسة النقدية للبنوك المركزية وحدها ليست كافية لتحقيق هذا الهدف.
تشير كل التوقعات إلى أن المركزي الأمريكي سيستكمل سياسة التشديد النقدي بزيادة أسعار الفائدة ولكن بوتيرة أقل، حتى يخفف من وطأة الانكماش، وهو ما يعني معدلات تضخم أبطأ في الدول النامية، التي تستورد جزءا كبيرا من معدلات التضخم بسبب مستويات الفائدة المرتفعة في الدول الغنية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة