من الأرجح أن وجود رئيس جديد منتخب يتبنى برنامجا إصلاحيا يستجيب لمطالب الحراك الشعبي هو خطوة أفضل من الناحية النظرية
عندما يدخل الرئيس الجزائري الجديد عبدالمجيد تبون قصر المرادية – وهو مقر الإقامة والعمل للرئيس، فإن مرحلة من تاريخ الجزائر تكون قد طُويت صفحاتها وبدأت مرحلة جديدة ملتبسة تختلط فيها تعهدات الرئيس الجديد بالإصلاح والتغيير، وشكوك الحراك الشعبي، الذي خرج في نفس يوم إعلان النتيجة في أسبوعه الـ43، بشأن هذه التعهدات ورفضه الانتخابات الرئاسية، التي وصفوها بأنها "مزورة" ورفضوا نتائجها. لذلك فإن المشهد السياسي الجزائري مفتوح لكثير من الاحتمالات والبدائل.
الفيصل في هذا الشأن، هو ما سوف يقوم به الرئيس الجديد من أفعال لعل أبرزها شخص رئيس الوزراء والتشكيل الوزاري المعاون، والقرارات التي سوف يتخذها في مجال مراجعة الدستور وقوانين الانتخاب وحرية الصحافة، وتعقب الفاسدين والمفسدين
كانت المفاجأة في تلك الانتخابات أنها حسمت الأمر من أول جولة، واستطاع المرشح تبون أن يحصل على نسبة 58% من عدد المشاركين، الذين مثلوا 39% من إجمالي عدد الناخبين الذين يصل عددهم إلى 9 ملايين ناخب، أي أقل من 5 ملايين بقليل. بينما توزعت النسبة الباقية على المرشحين الأربعة الآخرين، وكان الفرق كبيرا بينه والمرشح الثاني عبدالقادر بن قرينة الذي حصل على نسبة 17.38 %. وهي نتيجة لم يتوقعها أغلب المراقبين الذين أشاروا إلى جولة ثانية للانتخابات.
لم تشهد تلك الانتخابات انقطاعا مع أعضاء النخبة السياسية التي شاركت في الحكم خلال عهد الرئيس السابق بوتفليقة الذي حكم الجزائر لمدة 20 عاما 1999-2019، فكان كل المرشحين ممن شاركوا في الحياة السياسية والحزبية خلال هذه الفترة، ومنهم الرئيس المنتخب - البالغ من العمر 74 عاما - الذي رشح نفسه مستقلا مع أنه عضو في حزب جبهة التحرير، وهو الحزب المسيطر منذ الاستقلال عام 1962، والذي عمل في جهاز الدولة طول حياته منذ تخرجه من مدرسة الإدارة العليا بالجزائر عام 1965، فاشتغل لفترة طويلة في أجهزة الإدارة المحلية على مستوى الولايات أي المحافظات، فعمل أمينا عاما ثم واليا على عدد منها. وشارك بعد ذلك وزيرا لفترة تقارب 20 عاما كان أغلبها في وزارة الإسكان التي تسمى في الجزائر السكن والعمران، ووزارة الاتصالات. وهما كما نرى وزارتين ذات طابع تخصصي وفني.
جاءت نقطة التحول في حياة تبون في مايو/أيار 2017، عندما اختاره الرئيس بوتفليقة " الوزير الأول" أي رئيس الوزراء، ولكنه لم ينعم كثيرا بهذا المنصب الرفيع، إذ سرعان ما عزله الرئيس منه في شهر أغسطس/آب من العام نفسه، وكان قد شغله شهرين و22 يوما. وتردد أن السبب في ذلك أنه أصدر قرارات بمنع استيراد عدد من السلع الأجنبية التي لها نظائر من الإنتاج الوطني، وأدى ذلك إلى إغضاب المستوردين لتلك السلع، وكان على رأسهم علي حداد رئيس جمعية رجال الأعمال والمقرب من سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس، وكلاهما في السجن الآن.
وربما كانت هذه الواقعة هي حبل النجاة للرئيس المنتخب، فقد عدّ أنها شهادة تبرئة له من ممارسات الفساد التي أحاطت برجال النظام السابق، ومنهم سلفه في رئاسة الوزارة عبدالمالك سلال وخلفه في هذا المنصب أحمد أويحيى وكلاهما في السجن أيضا الآن. واستخدم هذه الواقعة في أول مؤتمر صحفي له عقب إعلان نتيجة الانتخابات، فأشار إلى أنه كان من المغضوب عليهم، وأن اسمه كرئيس سابق للوزراء قد تم حذفه من قائمة صور وأسماء الذين تولوا هذا المنصب في مبنى رئاسة الحكومة.
حرص تبون في برنامجه الانتخابي على تضمينه للشعارات والمطالب الأساسية للحراك الشعبي، فتعهد بإقامة جمهورية جديدة، ترتكز على مقومات الهوية الوطنية الجزائرية؛ وهي الإسلام والعروبة والأمازيغية، وتقوم على صياغة دستور جديد للبلاد يحقق الفصل بين السلطات ويعزز الديمقراطية والحكم الرشيد، والممارسات التشاركية التي تضمن دورا للمواطن على المستوى المحلي في تحديد الأولويات وتقييم "الموظف العمومي لخدمة المواطن والوطن"، بما يستجيب مع "الواقع المعاش ومطالب الحراك". وربط ذلك بإعادة النظر في قانون الانتخابات بما يدعم نزاهة العملية الانتخابية، وحرية الصحافة واستقلالها، وإقامة مجتمع مدني حر.
أشار برنامجه أيضا إلى دائرة واسعة من التعهدات بإصلاح النظام المحلي، ونظم التربية والتعليم والثقافة والصحة، والتأمين الاجتماعي ونظم التقاعد والمعاشات، والاهتمام بمصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. أكد أيضا تحديث الاقتصاد بهدف خلق فرص عمل جديدة للشباب بما يقضي على البطالة. وضرورة تمكين المرأة والشباب. وفي مجال محاربة الفساد، أشار البرنامج إلى ضرورة الفصل بين المال والسياسة، والقضاء على" المال السياسي". وفي مجال الاهتمام بالفئات الأقل مقدرة اقتصاديا، تعهد برفع الحد الأدنى للأجور، وإلغاء الضرائب عن محدودي الدخل. وإن الهدف من هذا كله هو إقامة "دولة القانون"، وهي دولة حديثة ذات نجاعة وشرعية.
في أول مؤتمر صحفي له بعد إعلان نتيجة الانتخابات، حرص تبون على إبراز أمرين للرأي العام الجزائري. الأول أنه لم يكن جزءا من العناصر التي استفادت من نظام بوتفليقة، وأن فترة حكمه لا تمثل استمرارا "لعدة خامسة" أي لا تمثل استمرارا لنظام بوتفليقة. والثاني أنه رئيس منتخب انتخابا شرعيا وفقا للدستور والقانون، وأن نسبة المشاركة في الانتخابات لا تؤثر على مصداقيته وشرعيته. وتواصلا مع برنامجه الانتخابي، أكد الرئيس تبون التعهدات التي وردت فيه وعددها 54. وأكد أيضا المصالحة ولم الشمل باعتبارها المدخل الضروري لتجاوز المرحلة السابقة وبدء إعادة البناء، مكررا التزامه بمراجعة شاملة للدستور وقانون الانتخاب، ومحاربة الفساد ومتابعة أموال دافعي الضرائب "المسروقة والمهربة إلى الخارج"، والاستماع إلى مطالب الشباب والحراك وأن النهج الوحيد الذي يؤمن به هو الحوار ثم الحوار ثم الحوار.
فإلى أي مدى يستطيع الرئيس الجديد أن يحقق أهداف برنامجه الانتخابي في مواجهة تراث الماضي، وصحيح أن الرئيس الذي يتم انتخابه بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات يتمتع بصلاحيات واسعة في كل مجالات السلطة في الدولة وخصوصا عندما كان رئيس الجمهورية هو رئيس حزب الأغلبية أو الحزب المسيطر على العملية السياسية. ولا يستطيع أحد أن يتكهن اليوم بالأوزان النسبية للأحزاب في أي انتخابات برلمانية مقبلة وعما إذا كان سوف يوجد حزب أغلبية أو أكثرية واضحة أم تتبعثر السلطة التشريعية بين عدد كبير من الأحزاب ما يثير مشاكل من نوع آخر.
وهناك علاقة الرئيس بالجيش، فمن الواضح أن الجيش هو قوة سياسية لا يمكن تجاهل دورها في تسيير شئون الحكم. وعلى سبيل المثال، فإن بوتفليقة ومستشاريه القريبين منه لم يوافقوا على تقديم استقالتهم إلا بعد أن تبنى قائد الجيش موقفا واضحا بشأن تطبيق مواد الدستور الخاصة "بالشغور الرئاسي". وبالمنطق نفسه، فإنه رغم رفض الحراك الشعبي لفكرة إجراء الانتخابات الرئاسية ومقاومته إياها، وذلك قبل التخلص من رموز النظام القديم، فإن الجيش الذي التزم بضرورة تطبيق مواد الدستور فرض إرادته ونجح في تنظيم الانتخابات في يوم 12 ديسمبر/كانون الأول على النحو الذي حدث.
من الأرجح أن وجود رئيس جديد منتخب يتبنى برنامجا إصلاحيا يستجيب لمطالب الحراك الشعبي هو خطوة أفضل من الناحية النظرية، ولكن من الأرجح أيضا أنه لن يوقف مسيرات الحراك الشعبي الأسبوعي. والفيصل في هذا الشأن، هو ما سوف يقوم به الرئيس الجديد من أفعال لعل أبرزها شخص رئيس الوزراء والتشكيل الوزاري المعاون، والقرارات التي سوف يتخذها في مجال مراجعة الدستور وقوانين الانتخاب وحرية الصحافة، وتعقب الفاسدين والمفسدين.
فعندما يطول أمد نزول الناس إلى الشوارع كما حدث في حالة الجزائر، فإن التوقف عنه يكون بالأفعال وليس بالأقوال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة