اليوم ومع فارق الأسباب والظروف والمآلات المفتوحة، يكرر أحمد داود أوغلو سيناريو أردوغان مع أربكان، ويعلن عن تأسيس حزب جديد
عندما كان مؤسس الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان على فراش الموت في مستشفى بالعاصمة أنقرة، أخبروه بأن أردوغان يريد زيارته للاطمئنان على صحته، قيل وقتها على لسان أربكان: إنه لا يريد رؤية هذا العميل الأمريكي، حسب وصفه، وقد توفي أربكان وفي قلبه غصة كبيرة من تلميذه السابق أردوغان، فالرجل الذي كان وراء سطوع نجمه عندما رشحه لرئاسة بلدية إسطنبول منتصف تسعينيات القرن الماضي، لم يكن يتوقع أن أردوغان سينقلب عليه، ويؤسس مع مجموعة من رفاقه حزبا جديدا عام 2001 (حزب العدالة والتنمية)، ليكون ذلك بمثابة النهاية الحزبية والسياسية لأربكان، خصوصا أن الرجل عاش بقية عمره في الإقامة الجبرية في ظل عهد تلميذه، الذي كان وقتها رئيسا للحكومة قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية وبصلاحيات مطلقة.
كل هذه المعطيات ترجح أن الضربة الكبرى سيتلقاها أردوغان من باباجان وليس من داود أوغلو، وأن تركيا ستنفتح على تطورات داخلية غير مسبوقة
اليوم ومع فارق الأسباب والظروف والمآلات المفتوحة، يكرر أحمد داود أوغلو سيناريو أردوغان مع أربكان، ويعلن تأسيس حزب جديد حمل اسم المستقبل لمواجهة معلمه السابق أردوغان. حجج أوغلو كثيرة، ولكن جميعها تتعلق بأردوغان وتحوله إلى ديكتاتور متورط في الفساد والإفساد ومنع التغيير الديمقراطي، وبانتظار اتضاح كيفية تصرف أردوغان مع دواد أوغلو بعد خطوته السابقة، يستعد العقل الاقتصادي الذي كان وراء السياسة الاقتصادية لحكومة العدالة والتنمية علي باباجان لتأسيس حزب جديد، وهو ما سيعمق من جروح أردوغان، ويضع حزبه الحاكم أمام مفترق طرق، لا سيما أن الحزب خسر كثيرا من شعبيته وحاضنته الاجتماعية، عقب خسارته المدوية في الانتخابات البلدية الأخيرة واستمرار الأزمة الاقتصادية، إذ تقول التقارير إن قرابة مليون عضو استقالوا أو تركوا الحزب خلال العام الجاري.
ما الذي سيفعله أردوغان في مواجهة هذا الامتحان الصعب؟ قبيل أيام من إعلان دواد أوغلو عن تشكيل حزبه، شن أردوغان هجوما عنيفا على داود وباباجان والرئيس السابق عبدالله غل، فقد اتهم هؤلاء الثلاثة بالفساد والاحتيال والتآمر، في حين خصت الصحافة التركية التي باتت حكومة أردوغان تسيطر على أكثر من تسعين بالمئة منها دواد أوغلو بعلاقة مشبوهة مع مراكز أمريكية في تكرار للاتهامات التي وجهها أربكان لأردوغان، فيما الهدف الأساسي من وراء هذا الاتهام لداود أوغلو هو تهيئة الظروف للقول بوجود علاقة بينه وبين الداعية فتح الله غولن المقيم في أمريكا الذي يتهمه أردوغان بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة المزعومة صيف عام 2016، وهو ما يعني إمكانية محاكمة داود أوغلو بتهمة (الإرهاب) إذا وجد فيه أردوغان خطرا حقيقيا عليه وعلى حزبه في المرحلة المقبلة.
رد داود أوغلو العنيف على اتهامات أردوغان، ومطالبته بالكشف عن ثروته العائلية ومصادرها، وضرورة مثول الجميع أمام القضاء، كانت رسالة قوية لأردوغان، ولعل هذا ما يقف وراء صمته حتى الآن في تجنب التعليق على إعلان داود أوغلو لحزبه، وربما البحث عن سيناريو مرن في كيفية التعاطي مع داود أوغلو، خصوصا أنه أرسل له مقربين عشية تأسيس حزبه يطالبه بالعودة إلى حضن حزب العدالة والتنمية الذي استقال منه، وهذا يعني أن أردوغان سيجرب مختلف الطرق مع داود أوغلو وصولا إلى سيناريو التحالف الحزبي معه قبيل الانتقال إلى سيناريو الانقضاض عليه إذا رفض ذلك، فأردوغان يدرك جيدا أن إطلاق النار على داود أوغلو من بوابة الفساد هو بمثابة إطلاق النار على نفسه، فداود أوغلو الموصوف بالجبن كان يتصرف في كل شيء بعلم أردوغان ويعرف عن الأخير كل شيء، وكيف حول حزب العدالة والتنمية إلى حزب الرجل الواحد والعائلة ورجال الأعمال والمال.
مع الإشارة إلى التشابه الأيديولوجي الكبير بين داود أوغلو وأردوغان، إذ إن الأخير ما زال يفكر بعقل داود أوغلو العثماني رغم وصول العلاقة بينهما إلى الخصومة، فإن معضلة أردوغان مع باباجان تبدو أكبر بكثير، نظرا للثقل الذي يتمتع به الرجل، وعلاقاته الواسعة مع المحافل الدولية لا سيما الاقتصادية منها، فضلا عن انفتاحه على أحزاب المعارضة التركية، إذ ثمة من يتوقع أن يشكل مع أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول وصلاح الدين ديميرداش المعتقل في سجون أردوغان ظلما، الثلاثي الذي سيتصدر المشهد التركي لإسقاط حكم أردوغان في المرحلة المقبلة. ولعل ما يخدم باباجان هو أن معطيات الداخل التركي هذه تتزامن مع سخط عالمي من سياسة أردوغان في الخارج، فلا تكاد توجد دولة في العالم - سوى قطر - وليست لديها مشكلات مع سياسة أردوغان، بل إن اتفاقه الأخير مع السراج بعث برائحة الحرب في المتوسط، وأيقظ ذاكرة الأوروبيين تجاه الإرث الدموي للعثمانيين بعد أن دقوا أسوار فيينا وحاولوا اقتحامها. كل هذه المعطيات ترجح أن الضربة الكبرى سيتلقاها أردوغان من باباجان وليس من داود أوغلو، وأن تركيا ستنفتح على تطورات داخلية غير مسبوقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة