قصف هيروشيما.. روايات وشهادات الناجين من القنبلة الذرية
ناجون من قذف القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي باليابان يروون شهادتهم عن الواقعة
لا شك أن قذف القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي باليابان أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1945 على الأبرياء والعزّل من الشعب الياباني يعد جريمة بكل معاني الكلمة لن يغفرها التاريخ للجيش الأمريكي.. فقد تم تدمير المدينة بالكامل وأوشكت أن تُباد تمامًا، ولا تقم لها قائمة مرة أخرى.
فهنا نجد قبة هيروشيما، أو قبة كِنباكو المعروفة باسم "قبة السلام" تقف شامخة صامدة رافضة أن تهتز إثر قذف القنبلة حيث يشهد هيكلها المعدني الباقي بعد قذف القنبلة على ما حدث على أرضها يروي ما جرى لأهل مدينته من ويلات الانفجار حيث كان مُريعا لدرجة أن كل فرد في هيروشيما قد أحسَّ وكأنه قد تلقَّى قنبلته في صدره.
هذه واحدة من الشهادات الحيّة المعروضة في متحف السلام التذكاري، قريباً من القبّة المتداعية في قلب هيروشيما اليابانية، والقائمة كمعلم مهيب يذكِّرنا بالحدث التاريخي المُريع، الذي لن يغفره التاريخ للأبد.
في هذا المقال لن نستعرض أحداث الكارثة أو تفاصيلها حيث إنه تم سردها في كثير من المقالات سابقًا، ولكن دعونا نغوص سويًا فيما وراء الستار من أعماق الحدث ونعايشه كما عايشه الشعب الياباني آنذاك لحظةً بلحظةً كي يتكون لدينا تصور شامل عن الحدث.
روايات بعض من الناجين
قال "ميتشيجي شيمانو": "كنت لا أزال طالبًا في الصف الثانوي آنذاك، أعمل في مصنع للمطاط يعمل به كثير من الطلاب. كان ذلك في الثامنة صباحًا عندما انتهينا من طابور العمل الصباحي حيث وقع انفجار ناري مصاحبًا له وميض متوهج تنعدم الرؤية بسببه، بعدها وجدت نفسي ملقى في الطابق السفلي للمصنع. وعندما خرجت للخارج وجدت الناس مجتمعين في الميدان، ووجدت أحدهم ينادي باللجوء إلى منطقة "إبا" والاحتماء بها. وبعدما استعدت وعيي، شعرت بألم شديد حيث وجدت رأسي داميًا ومصابًا مسافة 4 سم تقريبًا، ولكني قمت بسده باستخدام منشفة والذهاب معهم، ولكن ما لبثت حتى هرعت إلى المنزل بعدما تذكرت أن جدي وحده بالمنزل.. وما أن وصلت حتى وجدت المنزل قد هدم تمامًا، وليس هناك أي أثر لجدي وبعد محاولاتي البائسة بالبحث عنه، عاد والدي وأختي الصغيرة.. وقد قمنا بإزاحة آثار الدمار ومناداته مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى. وما أن نظرنا حولنا لا نجد سوى قلة قليلة من المارة، فالملابس مهترئة، ولا يوجد سوى جرحى بسبب الانفجار، وأناس تسير بشكل متثاقل. حينها توقفنا عن البحث عن جدي والتوجه إلى منطقة "إبا" للاحتماء بها حيث أن النيران قد أوشكت على النيل منا.
بعدها قذفنا الجيش الأمريكي قنابل لوكهيد التوأم. استلقينا حينها في الحقول وكان الأمر مروّعا للغاية فتساءلنا هل تم شنّ الحرب. وما أن أقبل الليل حتى لقي كثير من مارة الظهيرة الجرحى حتفهم على قارعة الطريق. كان منهم من لصق الضمادات على جروحه، ومن تقرّح جلده، ومن لم يتم التمييز بين رؤوسهم ووجوههم، ومن لقوا حتفهم متسمرين في أماكنهم. وحيث إنني كنت دائم البحث عن جدي فلم يكن لي سوى أن أفكر في أمره، وأحزنني ذلك كثيرًا. فالحرب فرقت بيننا وبين أحبتنا حيث تركناهم صباحًا وفقدناهم مساءً.
استمرت النيران مضرمة في مدينة هيروشيما ليل نهار دون توقف، ولكنني تمكنت من سلك طريقي. كانت الطرقات شديدة السخونة، وعواميد الإنارة محترقة كالقلم الرصاص، وانحرفت أشكال العبوات الزجاجية. وبعدما عدت إلى منزلنا المحترق، وجدت جثة أحد الجنود محترقة وملقاة على أطلال المنزل. وما أن سألت عن سكان المنزل أين ذهبوا، حتى قام أحدهم بإرشادي، وما إن ذهبت هناك حتى وجدت الجثث والعظام ملقاة على أطلال المنازل المحترقة. وما أن سألت المسؤول هناك حتى أرشدني إلى عظام جدي. وكان الطريق ممتلئا بالعظام والأخشاب التي تحترق معًا.
ما يلبث جسدي أن يرتعد بمجرد التفكير في الأمر إلى الآن، فقد قمنا بتناول أطعمة أصابها الإشعاع النووي. ووفقًا للمعلومات التي وردتنا، وجدنا أن الاسترونشيوم 90 المشع لا يمكن انتزاعه من الجسد بأي حال من الأحوال. فأنا أحد أولئك الذين تناولوا الأطعمة المشعة والمحترقة وأُصيبو بالمطر الأسود. فوجودي على قيد الحياة إلى اليوم بثمابة معجزة لا بد أن أحمد الله عليها. فقد سمعت أيضًا عن وجود جثث وأشلاء المقيمين في "أووتاجاوا" مصطفة على جانبي النهر ولكنها ملتوية وفي غير صورتها الآدمية. وكانت جدتي تقيم بحي "هاتسوكايتشي" ولكنها لم تتمكن من الصمود محترقة سوى 4 أيام فقط. وتوفي أبي بعدها بعامين، ولقت أمي حتفها بعد 5 أعوام، ولكنني لست على يقين هل للقنبلة والإشعاع سبب في وفاتهم أم لا. وقد استطاعت اختي النجاة بلجوئها إلى عربة قطار في حي "أوتسونا"، ولكنها تعاني من انتفاخ مزمن في قدميها إلى اليوم، فهل ذلك أثر القنبلة! أما أنا فأقوم اليوم بتقديم أنشطة عن كيفية التدليل والبرهان بالمدارس الابتدائية والإعدادية. فما سيشعرني بأنني قدمت رسالتي هو تسلّم الطلاب صغار السن لراية السلام وعدم التفكير في الحرب كي لا يعانون ما أعاني منه اليوم".
من جهته قال موريئو أوزاكي: "اختفت المواد الغذائية ومستلزمات الحياة اليومية من المتاجر. إنه العام 1945 والغارة الجوية بطوكيو وقذف الجيش الأمريكي للقاذفة الأمريكية B29 دون أدنى تمييز. وتسبب قذفهم لقنابل حارقة بلغ وزنها 2000 طن في تحويل الحي إلى بحور من النيران في لمح البصر. ولم يقتصر الأمر على الحي فحسب، بل امتدت آثار تلك القنابل غير المسبوقة حتى كان بإمكان المرء قراءة الجرائد بكل وضوح في ظلام الليل الدامس. فتركيزًا على الحي لم يكم هناك سبيلًا للفرار، فعند قذف القنابل اتسعت رقعتها حتى شملت كل ما يحيط بالحي. فلن أبالغ في الأمر إن قلت أن أجساد السكان تبخرت تمامًا كالأكياس البلاستيكية، وراح ضحية تلك القنابل ما يقرب من 10000 روح بريئة.
وفي صباح اليوم التالي، امتلئت مستشفى أساكسا (لم تعد موجودة اليوم) بالجرحى حيث وصل عددهم حوالي 200000 جريح. وفوق كوبري "أزوماباشي" هناك أعداد لا يمكن حصرها من آثار وأطلال العربات، واحترق السكان وملئت جثثهم الطرقات حتى اكتظت بهم إثر ما اقترفته الولايات المتحدة الأمريكية.
كان هدف القنابل إصابة مصنع ناكاجيما لصناعة الطائرات داخل الحي حيث أصابته أكثر من مرة، وراح ضحيته الكثير من الضحايا. وفي أيام تساقط الثلوج، كان باستطاعتنا سماع الأصوات المدويّة للطائرات فوق السُحُب، ولكن دون أن نراها. وكانت تستمر لمدة 4 و5 أيام، وكانت البيوت تهتز بسبب شدة الأصوات المدويّة.
ومع استمرار تلك المناورات لعدة أيام أخرى، كان بمقدورنا رؤية العراء بمجرد النظر إلى الحي، وكذلك رؤية التضاريس والطرق المؤدية إلى طوكيو بمجرد النظر من البنايات المرتفعة. وفي مساء الخامس عشر من شهر مايو أمطرنا بوابل من القنابل الحارقة بدايةً من مدينة "إيفوكو-تشو" امتدادًا إلى "جبل هامادا"، فاحترقت مدينة "إيفوكو-تشو" بأكملها واحترق بيتنا والسياج المحيط به.
واستمرت القنابل بالسقوط بصورة شبه يومية ولمدة شهرين حتى السادس من أغسطس 1945 حيث لاحت في الأفق الصافي الخالي من الغيوم القاذفة الأمريكية B29 من على ارتفاع 10000 متر وهي تقذف على المدينة، وكنت أنظر إلى الثكنات - مركز انفجار القاذفة - من مسافة 700 متر. وقد انقطعت صافرات الإنذار، ولم تمر بضع دقائق حتى اشتعلت النيران على مرمى البصر. وما أن حاول السكان الاختباء، حتى انتشرت رياح القاذفة ذات رائحة لا تطاق، وتبخرت أجسادهم في الهواء، وكذلك الجنود والثكنات. وتعالت أصوات الاستغاثة والنجدة، ولكن عمّ الظلام ولم يكن الأمر معروف ما إن كان بفعل الغيوم النووية أم بفعل الغبار النووي.
مع فجر اليوم التالي بدأت الرؤية تتضح نوعًا ما، فكنت أزحف من مكان الثكنات المدمرة ولم أصدق ما رأته عيناي. فلم يكن هناك أي أثر لظلال أو معالم قبة هيروشيما الشامخة أمام ناظري، وأصبحت ثكنات الجنود ذات الطابقين مجرد أطلال خشبية. ومن أصيبوا بالانفجار بالخارج اسودّت جلودهم واحترقت، ومن أصيبو به بالداخل كانت أجسادهم تدمي حيث ارتشق بها زجاج منازلهم. ومن بين هذه المشاهد تعالت أصوات الاستغاثة والنجدة ثانيةً ولكن لم يكن بمقدور أحد تقديم أي شيء. فلم يكن بالمقدور سوى تضميد الجروح، ونقل الجرحى والمصابين إلى المآوي، في حين أنه لم يكن بالمقدور إنقاذ من هم تحت أنقاض الثكنات المدمرة، أو إسعافهم، حتى أنا بالكاد كنت أقوى على الحركة رغم أنني لم أُصَب بصورة كلية.
بعدها، وفي التاسع من أغسطس تم قذف القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكي. وعليه قبل زعماء الحرب باليابان إعلان بوتسدام، وأعلنت اليابان الاستسلام في الخامس عشر من الشهر نفسه، وانتهت الحرب التي دامت 15 عامًا.
ما توصلت إليه الأبحاث
ارتفعت احتمالية إصابة من تعرضوا للإشعاع قدرة 200 مللي زيفرت بالسرطان إلى أكثر من الضعف. وبينما تقدر احتمالية الإصابة بالسرطان بنسبة 30% لمن تتراوح أعمارهم بين 30 ~ 70 عامًا في الطبيعي، أصبحت احتمالية إصابة الناجيين من القنبلة بالسرطان تقدر بنسبة 33% لمن هم في الثلاثين من عمرهم.
هناك 7 من بين كل 1000 ياباني معرض للإصابة بسرطان الدم، بينما ارتفعت احتمالية إصابة من تعرضوا للإشعاع قدرة 200 مللي زيفرت بسرطان الدم إلى 10 من بين كل 1000 شخص.
ازدادت نسبة إصابة المواليد بإعاقة ذهنية في حال تعرضت أمهاتهم إلى الإشعاع أكثر من 200 مللي زيفرت في أشهر الحمل الثلاثة الأولى. ظهرت تلك الآثار على من تعرضن إلى نسبة إشعاع أكثر من 500 مللي زيفرت. أما من كانوا في الأسابيع الأولى من الحمل الأقل من 7 أسابيع، ومن مر على حملهن 26 أسبوع فلم تظهر على أجنّتهم أية آثار.
لم تظهر تغييرات واضحة على الحالة الصحية لمواليد الناجيين من القنبلة والذرية تميزهم عن غيرهم من مواليد.
أصبحت أرض هيروشيما جرداء حيث جرفت وسويت وصقلت ولم يتبق بها يدل على الحياة. وظلت هكذا رافضة أن تزينها ولو شجرة واحدة لمدة 75 عامًا، لتشهد على ما تم اقترافه على أرضها، حتى نبتت فيها أول زهرة بعد 75 عامًا من القنبلة، لذا تم اتخاذ هذه الزهرة رمزًا لمدينة هيروشيما ولمعافاتها من القنبلة. وهكذا نجد أن القنبلة النووية كانت بحق من أقوى أسلحة الموت التي صنعتها يد الإنسان، وقد دفع الشعب الياباني ثمنًا ليس بالزهيد قد يوصل رسالة للعالم بأسره أنه ليس هناك رابح وخاسر في الحرب، بل لا تمثل الحرب سوى دمار شامل لكلا الطرفين، ومنذ ذلك الحين توجهت اليابان إلى نشر السلام في العالم أسره.