عمر الخلافة الأموية في قرطبة يزيد على 200 عام عندما ارتحل "جيربير" جنوباً، وكان العباسيون يحكمون بغداد منذ فترة مماثلة.
يدفعنا شهر رمضان الفضيل للبحث المعمق في التاريخ الذي جمع العالم الإسلامي بالباباوية، وحاضرة الفاتيكان، والتساؤل: هل كانت هناك في لحظة زمنية معينة جسور وصل وتواصل بين الجالس سعيدا على كرسي ماربطرس أي الحبر الروماني الأعظم، والعالم الإسلامي، ذاك الذي وجد في فترة زمنية طويلة على الأراضي الأوروبية في الأندلس؟
ثم إذا كان قد حدث ذلك، فما هي العبر والدروس التي يمكن أن تنعكس على حاضرنا المعاصر، وبما ينفي المجال المطلق لنظرية صدام الحضارات، لعالم الاجتماع السياسي "صموئيل هنتنجتون"، ومن لف لفه؟
يطلق الكاتب والدبلوماسي الأمريكي السابق "مايكل هاميلتون مورجان" في كتابه المعنون FROM MECCA TO MITADATA " من "مكة إلى الميتاداتا"،) الميتاداتا تعني ما وراء البيانات)، على البابا الروماني الكاثوليكي "سيلفستر الثاني" لقب البابا الذي نقل الرؤية المستقبلية العربية الإسلامية إلى أوروبا.
ففي فرنسا ومع أواخر العقد الخامس من القرن العاشر الميلادي ولد صبي صغير يدعى "جيربير" ذو ذكاء استثنائي، رغم فقره المدقع، وقد تمكن من شق طريقه إلى دير القديس جيرالدد أورياك"، عندما ناهز السابعة عشر عام 945، وهناك أصبح راهباً مبتدئاً لدى الكنيسة، وقد تميز عن رفاقه الأكبر سناً وعن معلميه بطبيعته المجدة، والمحبة للاستطلاع، وبولعه بالمخطوطات والمعرفة، وعندما بلغ 21 عاماً زار الدير نبيل من منطقة كاتالونيا المسيحية يدعى الكونت "بوريل الثاني" من برشلونة.
على الدرجة نفسها من الأهمية تأتي إعادة اكتشاف أنه على الرغم من المساعي الهادفة إلى خلق فجوة بين المسيحية والإسلام، أو التي لا تركز إلا على الصراعات بين الحضارتين، فإن الحقيقة التاريخية تثبت أن هذين المعتقدين والحضارتين كان لكل منهما تأثير عميق على الأحرى لما يزيد على ألف عام
أقنع الرهبان الفرنسيين "بوريل" باصطحاب الصبي "جيربير" معه إلى كتالونيا لدراسة العلوم والرياضيات، وقد وافق الكونت وعهد به إلى رعاية الأسقف "أتو" ، وسمح له بدخول دير "سانتا ماريا دي ريبوري" الأكثر ثراءً.
على أنه قبل الدخول في عمق الدور الذي سيلعبه الفتى "جيربير" والذي سيصير حبراً رومانياً أعظم، فإنه ينبغي النظر إلى السياقات التاريخية والمعرفية التي نشأ فيها الفتى الفرنسي آنذاك.
بحسب "مورجان" مؤسس ورئيس مؤسسة "أسس جديدة للسلام"، التي تسعى لتعزيز التفاهم بين الحضارات، وتدعم مفهوم القيادة عند الشباب، كان العالم المتخلف وقتها هو أوروبا، بينما كان يمثل العالم المتقدم الخليفة الأموي في إسبانيا، والفاطميين في شمال أفريقيا، والعباسيين وخلفاءهم في بغداد، والإمبراطورية البيزنطية والإمارات الأخرى المتعددة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
كان عمر الخلافة الأموية في قرطبة يزيد على 200 عام عندما ارتحل "جيربير" جنوباً، وكان العباسيون يحكمون بغداد منذ فترة مماثلة، بينما كانت الخلافة الفاطمية في القاهرة في قمة مجدها وأنشئت مؤسسات بيت الحكمة في بغداد، ودار الحكمة في القاهرة، وأنشأ المفكرون في الأندلس وقرطبة مكتبات لنشر المعرفة والاستكشاف، عدا ما توصلت إليه من كشوف منطقة البحر المتوسط.
كانت إسبانيا نفسها، وكذلك إيطاليا وصقلية على نطاق أصغر تحتل مكانة بوصفها مركزاً لانتقال الأفكار والاكتشافات العربية إلى أوروبا، وفي حين سيطر الأمويون على الجزء الأكبر من إسبانيا والبرتغال، صمدت مملكتا قشتاله وليون المسيحيتان في الشمال، وكانت برشلونة التي ظلت في وضع أطلق عليه الثغر الإسباني مسيحية أيضاً.
على مدى خمسمئة عام التالية مع تضاؤل قوة العرب في إسبانيا تدريجياً بينما نمت الممالك المسيحية، تحولت إسبانيا إلى أرض تنتشر بها الدول - المدن. ومثلما أرسى الأمويون التعددية الحضارية حجر أساس لمجتمع يجمع بين المسلمين واليهود والمسيحيين، تمتعت الدول- المدن الإسبانية الناشئة بروح التسامح والتعددية.
كانت تلك هي الخلفية التاريخية التي صاحب رحلة "جيربير" الشاب إلى دير سانتا ماريا دي ريبوي المترف للدراسة في كتالونيا برعاية الكونت بوريل. أسس مركز الدراسة المسيحي هذا عام 888، وعكس بنيانه تأثير المعمار الأموي الذي كان يعرف بالطراز الرومانسيكي، والاسم أدق له هو العمارة الرومانسيكية الإسلامية، التي تميزت بالأقواس، والساحات، والطراز المعماري للمسجد الأموي في قرطبة، وقصر الحمرا الملكي في غرناطة.
أصبحت هذه المؤسسة الأكثر ثراء وتنوعاً هي وطن "جيربير" الجديد، فمكتبة دير أورياك المتواضعة لم تكن تضم إلا 400 مخطوطة، في حين كانت مكتبة دير سانتا ماريا دي ريبوي المركز الثقافي في كتالونيا، وقد كانت تعد نسخة مسيحية مصغرة من بيت الحكمة، وغيره من مراكز العلم في العالم العربي.
اكتسب "جيربير" الكثير جداً من العلوم والمعارف التي وظفها في كتابة أطروحاته الخاصة، بناءً على الاكتشافات العربية التي ربما تمكنت من الانطلاق إلى العالم الواسع أو ظلت قابعة في موطنها.
كان هدف "جيربير" الأسمى مواصلة اكتشافاته الفكرية، وفى الوقت نفسه تدرج في المناصب حتى وصل إلى منصب كبير أساقفة ريمز (995 م)، ليصل إلى منصب الباباوية كأول فرنسي. وقد اعتبر من أعظم المفكرين والمثقفين والمجددين الذي شغلوا هذا المنصب في تاريخ الكنيسة. لقد كان سابقاً لزمانه ومكانه بسنوات عديدة، وكما هو الحال مع جميع المجددين، أدى تفكيره العلمي المتقدم وشغفه المحموم بجلب اكتشافات العرب ذات الطابع المستقل إلى أوروبا إلى اجتذاب أعداء جدد له، وحوله إلى شخصية ظلت موضع جدل طوال الألف عام التالية.
غير أنه في عام 1602، عثر الكاردينال "بورينوس" أمين المكتبة الباباوية، على مجموعة من رسائل البابا "سيلفستر"، واستنتج من قراءتها أنه لم يكن إلا عالما سابقا لزمانه، وأن أولئك الذين يرغبون في محو اسمه من سجل الباباوات هم مجموعة من الجهلاء الحمقى.
ليس الهدف هنا التوقف عند سيرة بابا بعينه، لكن المراد هو القول إن الجسور الإنسانية لم تعدم البتة بين الإسلام والكنيسة الكاثوليكية، لا سيما أن الباحثين اليوم يعيدون اكتشاف "سيلفستر" بوصفه مفكراً تقدمياً، وجسراً بين الإسلام والمسيحية التاريخيين، وأحد مناصري البحث العلمي والحقيقة والاعتدال.
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كتاباته وترجماته من العربية إلى اللاتينية، كانت خطوات أولى ساعدت على بدء تحول أوروبا والغرب من أكثر مناطق العالم تخلفاً إلى المكان الذي شهد ميلاد عصر النهضة والتنوير والثورتين الصناعية والعلمية.
وعلى الدرجة نفسها من الأهمية تأتي إعادة اكتشاف أنه على الرغم من المساعي الهادفة إلى خلق فجوة بين المسيحية والإسلام، أو التي لا تركز إلا على الصراعات بين الحضارتين، فإن الحقيقة التاريخية تثبت أن هذين المعتقدين والحضارتين كان لكل منهما تأثير عميق على الأحرى لما يزيد على ألف عام، وأن هذا التأثير أسفر عن الكثير من إنجازات العالم الحديث.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة