بكل استخفاف، سارت بعضٌ من كبرى المؤسسات الإعلامية العربية وراء الخطاب الشعبوي بتوجّهاته غير المنضبطة، في انسياقٍ مخيفٍ وراء ما لا يمكن استيعابه: تحويل الإرهابي إلى بطل، وتحويل الباطل إلى فضيلة.
مشهديةٌ مخيفةٌ يتداولها الإعلام الذي يجب أن تكون مهمته الحقيقية هي إظهار الحقيقة وتفنيدَها، وليس مطلوبًا منه أن يقدم مواد يفترض أنها مُعدّةٌ من التنظيمات الإرهابية.
حالةُ انفلاتٍ تستدعي تنبيهًا وتنبّهًا، بل قرعًا لأجراس الخطر حتى لا تتكرر المأساة مرةً بعد مرة. ما يحدث هو أن الإعلام الذي يُفترض أن لديه قيمًا ومبادئ وقواعد تُضبِط حركته، اهتزّ وأظهر هشاشةً وراء رغبة تحقيق مكتسباتٍ في أذهانِ مجاميعِ الشعبويين من العرب الذين لم ولن يتعلموا من تاريخهم ومن مآسيهم وأوجاعهم شيئًا أبدًا.
عاد الصحويون ليركبوا الموجة، وإن أنكرنا هذه الحقيقة لكنها حقيقية، وإلا كيف يُمكن تفسير عرض الوسائل الإعلامية العربية التي أنفقت عليها الدول العربية الوطنية مليارات الدولارات لتكون منصات للمعرفة فإذا بها تعود لحقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ويتحول خطابها لما تريده تمامًا جماعات الإسلام السياسي؟ نبش قبورٍ وحرقُها ونقلٌ مباشرٌ لخطب "المجاهدين" في سوريا بعد أن أعادت هذه الوسائل الإعلامية نفسها إنتاجَ أبومحمد الجولاني في صورته المُحسّنة "أحمد الشرع".
عشراتٌ من "المجاهدين" يهتفون في شوارع دمشق وحلب ودرعا وهم يهتفون بالخلافة الإسلامية، ومع ذلك يتم عرضُها بكل سذاجةٍ لهاثًا وراء أرقام المشاهدات لمجاميعَ تريد أن تُشاهد هذه المشاهد وليس غيرها.
لا أحدَ في العالم لا يعرف أن نظام الأسد نظامٌ مجرمٌ، وهو موصوفٌ بأنه نظامٌ سيئ السمعة منذ ظهر حزب البعث العربي الاشتراكي على أرضه، فهل يعقل أن تُفتح عشراتُ الساعات لنقلٍ مباشرٍ من داخل السجون والمعتقلات؟ هذه ليست مهمةَ الإعلام أن ينساق وراء تصوير مشاهداتٍ ليست لها معنى، فالنظام معروفٌ بأنه فاشٍ، ولن تضيف هذه الساعات الحيّة من البث المباشر إضافةً أخرى للناس.
اللعب على وتر المظلوميات هو ما صنعَه الإخوان حتى وهم يزايدون على شعب فلسطين في غزة بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانوا يقولون إن الشعب الفلسطيني صامدٌ بينما هو يُقتل ويُهجّر ويُفتَك به. هم أنفسهم الذين كانوا يحتفلون بـ"حرب المسافة صفر" التي روّج لها الدويري ليملأ رغبات المشاهدين، في حين غزة كلها تحوّلت إلى ركام.
لا تفسير أمام الانجراف العاطفي غير المحسوب أو المنضبط، سيولة غير مفهومة في تقديم مشهديات سوريا وهي تعيّد مشهدية العراق في ٢٠٠٣. العراقيون احتفلوا بإسقاطهم تمثال صدام حسين واحتفلوا بحلّ جيشهم ثم ماذا حدث؟ جاء أبومصعب الزرقاوي رفيق أبومحمد الجولاني، إذن ما هو الجديد في مشهدية إسقاط التماثيل وإظهار المجاهدين واعطائهم صبغة المجاهدين الفاتحين؟ المسؤولية تقتضي درجة انضباط عقليّ حتى لا تتكرر المآسي ككل مرة.
يبدو أن الإعلام العربي، أو بعضه على الأقل، قد نسي دروس التاريخ القاسية، ووقع في فخّ التبسيط والاختزال، فاختزل الصراع السوري المعقد في ثنائية "النظام - الشعب"، وغضّ الطرف عن التعقيدات الجيوسياسية والتدخلات الدولية والأجندات المتضاربة. كما اختزل "الجولاني" في صورة "المناضل ضد الظلم"، متجاهلاً تاريخه المرتبط بتنظيم القاعدة وأيديولوجيته المتطرفة.
إن هذا الانسياق الأعمى وراء الشعبوية و"الترند" يحمل في طياته مخاطر كبيرة، فهو يساهم في تزييف الوعي وتشويه الحقيقة والترويج لخطاب الكراهية والتطرف. كما أنه يُضعف من مصداقية الإعلام ودوره في توعية الرأي العام وتشكيل وعيه.
إن الأزمة السورية مأساة إنسانية معقدة، تتطلب من الإعلام التعامل معها بمسؤولية وحيادية، بعيداً عن الانفعالات والأحكام المسبقة. فالمطلوب هو تقديم تحليل عميق وشامل للأحداث، يكشف عن جذور الأزمة وتداعياتها ويُساهم في إيجاد حلول عادلة ومستدامة.
أسئلةٌ كثيرةٌ تُطرح في هذا السياق، هل سيستمر الإعلام العربي في هذا الانسياق وراء الشعبوية على حساب المهنية والموضوعية؟، متى سيُدرك الإعلام خطورة الترويج لخطاب التطرف والعنف؟، هل سيتمكن الإعلام من استعادة مصداقيته ودوره في توعية الرأي العام؟ يبقى الأمل في أن تُراجع بعض وسائل الإعلام مواقفها، وأن تُدرك مسؤوليتها في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة