يوما بعد آخر؛ تتبلور التشعبات التي أفرزتها الأزمة السورية بالتوازي مع تقدم الخيار السياسي والدبلوماسي كمسعى محوري لطي صفحتها وفتح صفحة تعافيها دولة وشعبا.
ومنذ أن أفصحت تركيا عن رغبتها في التوجه نحو تطبيع العلاقات مع سوريا قبل أكثر من ستة أشهر، تأكدت حقيقتان سياسيتان؛ الأولى هي أن إهمال الملف السوري أو تجميده أو تركه بلا مقاربات حلول جدية ومسؤولة لم يعد مجديا أو مفيدا لجميع الأطراف المعنية به أو المتأثرة بتبعاته وتداعياته داخليا وعربيا وإقليميا ودوليا.
والحقيقة الثانية أكدت أهمية المبادرة التي بلورتها الدبلوماسية الإماراتية عام 2018 القائلة بضرورة التواصل مع الحكومة السورية والعمل معها من أجل تجاوز الشعب السوري لمحنته، وأقدمت على ترجمة ذلك بخطوات عملية بإعادة افتتاح سفارتها في دمشق.
الحراك الدبلوماسي متعدد المسارات على أكثر من مستوى في النطاقين العربي والدولي ، نقل الاهتمام بالملف السوري من دائرة الأمنيات والتصورات والرغبات عند هذا الجانب أو ذاك، إلى ساحات مواجهة الواقع الموضوعي الناشئ على الأرض السورية أمنيا وميدانيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مما أتاح الانتقال إلى خطوات البدء في معاينة إرث سنوات الحرب وما خلفته من آثار وتصدعات على بنية الدولة السورية وعلى شعبها بشفافية ووضوح، والأهم أنه فتح المجال للقيام بعملية تشخيص دقيق لمجمل الأمراض التي علقت بالجسد السوري، وأسهم في تقديم وصفات محكمة لعلاجٍ يقوم على تعاون الجميع، وهذا جوهر ما تضمنته خارطة الطريق العربية التي فتحت الباب أمام عودة العلاقات العربية مع سوريا، وصولا إلى مشاركتها في قمة جدة.
أطلق التحرك الدبلوماسي باتجاه سوريا، العربي والتركي، العنان لأحصنة سباق المصالح، فبدت بعضها متقاطعة عند غالبية القضايا في المسار العربي، وبعضها الآخر متنافرة، بل ومتصادمة في قضايا أخرى في المسار السوري التركي، سواء في الاتفاق على توصيف بعض الظواهر التي أنتجتها سنوات الحرب الماضية، أو حول قضية طارئة تحمل في طياتها ملامح إقلاق لطرف دون آخر، فتركيا تتمسك بعنوان جوهري من حيث الأهمية بالنسبة لها ولأمنها القومي وهو "مكافحة الإرهاب"، وسوريا تلتقي معها على مكافحة الإرهاب دون مواربة، لكن الإشكالية الناجمة عن التلاقي حول هذا المفهوم تكمن في التناقض السياسي النابع من المصالح الذاتية من ناحية، ومن حيث القدرة على تحقيق الغاية لكل طرف من ناحية ثانية.
فمكافحة الإرهاب كنقطة ارتكاز للدبلوماسية التركية في توجهها نحو التطبيع مع سوريا تتمحور حول القضاء على "التهديد" الذي تراه متمثلا في "قسد" وتموضعها شرق وشمال شرق سوريا، أي على تخوم حدودها الجنوبية، وتطالب الجانب السوري بضمان إنهاء هذا التهديد ومصدره، في حين تنطلق سوريا من قناعتها الواقعية بعدم وجود أي مبررات أو مصالح تدفعها في الوقت الراهن لفتح جبهة كهذه طالما أن الجانب التركي لا يوافق على طمأنتها والتجاوب مع مطلبها بإنهاء تهديدات المسلحين المنتشرين في الشمال السوري كونهم يصنفون من قبل الحكومة السورية "إرهابيين"، إذن لكل طرف هاجسه وهدفه من وراء التمسك بالمفهوم ذاته، ومع أن الهواجس التقت إلا أن الأهداف تباينت وطالت أساليب المعالجة، وتصادمت في هذه العُقدة بينهما لبواعث ذاتية، وأخرى خارجة عن قدرة الطرفين على الفعل ميدانيا أو سياسيا بسبب العامل الأمريكي الذي يبدو، موضوعياً، غير مستعد للتفاهم مع تركيا، حليفته الأطلسية، حول مطالبها في النقطة المتعلقة بـ"قسد" تحديدا، وبالتالي من الطبيعي أن لا يكون الأمريكيون مستعدين للحوار مع الثلاثي الروسي والسوري والإيراني حول مفاتيح الحل حتى ولو كان الحل المنشود يخدم مصالح الحليفة تركيا.
أمام هذا الواقع القائم تبرز أهمية الدور العربي في العمل من أجل تقريب وجهات النظر بين أنقرة ودمشق والتركيز على المشتركات بين الجانبين على المستوى الثنائي أولا، أي استثمار العلاقات العربية المتوازنة والراسخة مع تركيا والتي تشهد نماءً مطردا، لإيجاد نقاط التقاء وارتكاز مشتركة تحقق مصالح الطرفين، ومن ثم تشكيل قوة ضغط دبلوماسي موحدة الرؤى والأساليب والأهداف من قبل هذه الأطراف تكون قادرة على رعاية مصالح الجميع وضامنة لها من حيث المبدأ والأفعال، وحينها يمكن توظيف مخرجات التعاون والتفاهمات بين الأطراف العربية والإقليمية والدولية مثل روسيا والصين، في إطلاق حوار سياسي وطني سوري - سوري بين جميع مكونات المجتمع السوري وذلك بإسناد عربي ورعاية أممية، يفضي إلى تحقيق الاستقرار العام في البلاد، وهو السبيل الأمثل الذي يشكل الأساس الراسخ لخروج سوريا من عنق الزجاجة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة