هجمات «تحرير الشام».. عين على تقارب دمشق وأنقرة وأخرى على «غضب الشمال»
صعدت "هيئة تحرير الشام" من عملياتها ضد الجيش السوري وشنت مؤخرا هجوما هو الأعنف منذ 4 أعوام، ما أثار أسئلة بشأن الأسباب.
ويرى مراقبون أن التصعيد الجديد للهيئة (جبهة النصرة سابقا المرتبطة بتنظيم القاعدة) هو محاولة لضرب مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة.
وشنت الهيئة هجمات في محوري وادي كلز والصراف بجبل التركمان شمال اللاذقية، تعد من ضمن أشرس العمليات التي شنتها الهيئة منذ انتهاء المعارك الكبرى مع الجيش السوري عام 2020.
وتتزامن الهجمات الأخيرة مع متغيرات داخلية يتعلق بعضها بالتدافع بين تيارات الهيئة التي يتزعمها أبومحمد الجولاني، وبعضها الآخر يتعلق بالحراك الاحتجاجي المتواصل ضدها منذ أشهر في عدد من المناطق الخاضعة لسيطرتها، وهو الحراك الذي يطالب بتغيير جذري في نهج الهيئة وقيادتها خصوصا فيما يتعلق بملف المعتقلين الذين تحتجزهم في سجونها دون مسوغات قانونية.
ويبدو أن تلك المتغيرات دفعت الهيئة إلى تصعيد الهجمات في عدد من نقاط التماس مع الجيش السوري، مع العلم أن هذه الهجمات تحدث بين آن وآخر من كلا الجانبين، لكن تصعيدها يحمل في طياته دلالات عدة، منها الرغبة في إثبات الوجود العسكري وإرسال رسائل للأطراف الداخلية والخارجية مفادها أن الهيئة قوة فعلية على أرض الواقع، ولا يمكن أن تكون هناك تفاهمات أو ترتيبات مستقبلية لوضع الشمال السوري دونها، وكذلك تهدئة الاحتجاجات ضدها عبر لفت الانتباه إلى الصراع مع الحكومة السورية.
وذهبت مصادر مقربة من هيئة تحرير الشام إلى أن مقاتلي الهيئة تدربوا خلال الفترة الأخيرة على تنفيذ هجمات وعمليات كبرى تشمل اقتحام مناطق والسيطرة عليها، مضيفين أن الهيئة تفكر في إطلاق معركة واسعة النطاق للسيطرة على مدينة حلب السورية، ولذا دربت وحدات عسكرية تابعة لها على عمليات اقتحام أهداف مشابهة لساحة العمليات في حلب، فضلا عن قيامها رصد مواقع وتمركزات القوات السورية في محيط المدينة، مضيفين أن قيادة الهيئة قد تلجأ لبدء تلك العملية في حال مضت خطوات التطبيع بين دمشق وأنقرة بوتيرة أسرع.
وفي هذا الإطار نشر الجناح الإعلامي لهيئة تحرير الشام، مؤخرا، صورا وفيديوهات تظهر مقاتلين من قوات النخبة في الهيئة وهم يتدربون على عمليات الانغماس واقتحام المواقع العسكرية، ويظهر من الفيديوهات أن المقاتلين لديهم تجهيزات عالية من الناحية التكتيكية، بما في ذلك أجهزة رؤية ليلية وبنادق قنص وقاذفات مضادة للدروع محمولة على الكتف.
وتريد هيئة تحرير الشام من نشر هذه المواد الدعائية التأكيد على أن لديها وحدات عسكرية شبه نظامية، وليست مجرد مجموعات عصابات تقليدية تقاتل بتكتيك الكر والفر، إضافة إلى التأكيد على جاهزيتها للمزيد من الهجمات النوعية في المرحلة الحالية والمستقبلية، وهذه الرسائل تريد من ورائها الهيئة تكوين صورة ذهنية لها بأنها منظمة قوية وقادرة من الناحية العسكرية، بحسب ما يظهر من تحليل موادها الدعائية.
الخلافات على قيادة الهيئة
ولا تنفصل هذه الرسائل الدعائية عن الأوضاع السياسية في مناطق سيطرة الهيئة بشمال غرب سوريا، إذ تواجه الهيئة حراكا احتجاجيا متواصلا، فأمس الجمعة خرجت مظاهرات في مدينة إدلب تدعو لإسقاط قائد الهيئة أبومحمد الجولاني، وحل جهاز الأمن العام التابع للهيئة المتهم بممارسة انتهاكات واسعة النطاق ضد خصومها، والإفراج عن المعتقلين من سجونها.
ولم يتوقف هذا الحراك على مدار الأشهر السبعة الماضية، الذي انطلق في فبراير/شباط الماضي، احتجاجا على ما عُرف بملف "العمالة"، الذي يقصد به تعاون قيادات بالهيئة مع التحالف الدولي لدحر داعش من أجل الإطاحة بقيادات التنظيم وغيرهم من الفصائل، بما في ذلك كوادر تنظيم حراس الدين، فرع تنظيم القاعدة في سوريا.
وقبل أيام معدودة دعت كيانات سورية منخرطة في الحراك، منها رابطة أهل العلم في الشمال السوري، واتحاد التنسيقيات، وتجمع مبادرة الكرامة هيئة تحرير الشام، إلى التحاكم أمام لجنة قضائية مستقلة من أجل الفصل في 10 قضايا خلافية، منها شرعية إمارة أبومحمد الجولاني، وشرعية مجلس الشورى الذي أنشأه، وتصفية السجون التي يديرها جهاز الأمن العام للهيئة.
وبجانب المطالب السابقة تدعو تلك الكيانات إلى الفصل في قضايا، منها الضرائب الباهظة المفروضة على السكان في إدلب، وكذلك سيطرة الهيئة على الموارد الاقتصادية بما في ذلك الأوقاف الإسلامية وغيرها.
وفي المقابل تلجأ الهيئة وعلى رأسها أبومحمد الجولاني للتحايل على تلك المطالب عبر المماطلة في الاستجابة لها، وتلبية بعض المطالبات بصورة شكلية ثم التراجع عنها، وهذه الأساليب هدفها امتصاص جزء من الغضب الشعبي الموجه للهيئة دون أن يضطر زعيمها الجولاني لتقديم تنازلات حقيقية.
وعلى صعيد متصل تشهد الهيئة احتجاجات داخلية من آن لآخر، خاصةً فيما يتعلق ببعض القضايا الشرعية، وهذا يرجع إلى طبيعة مكونات الهيئة الداخلية والتباينات بينها، وكان آخر تلك الخلافات ما حصل في دورة الألعاب البارالمبية التي نظمتها منظمة "بنفسج" في ملعب إدلب البلدي بالتوازي مع دورة الألعاب البارالمبية في باريس، إذ دار حولها الكثير من النقاش والاختلاف بسبب انحناء "حامل الشعلة" للجمهور خلال الافتتاح، وهو ما اعتبره شرعيون بالهيئة يمثل طقسا ومعتقدا وثنيا، ولذا اضطرت حكومة الإنقاذ المؤقتة التي تسيطر عليها الهيئة لإلغائها رغم توقيعها اتفاقية مسبقة مع المنظمة التي تولت تنظيم الدورة.
وتعكس هذه الأزمة وجود تيار متشدد داخل الهيئة وآخر براجماتي يرى التلون وفق متطلبات الأوضاع القائمة، وهذا التيار الأخير يمثله أبومحمد الجولاني الذي بدأ مسيرته كجندي ثم قيادي في تنظيم داعش ثم انشق عنه، وبايع تنظيم القاعدة وأميره أيمن الظواهري، قبل أن ينفصل عنه ليمضي في مشروعه السياسي الخاص داخل إدلب.
مسار التطبيع يعقد الوضع الداخلي
بدوره، قال هشام النجار، الخبير في شؤون حركات الإسلام السياسي، إن هيئة تحرير الشام تعاني معضلات ومشكلات مركبة، وأتى مسار التقارب بين تركيا وسوريا ليزيد الأمر تعقيدا ويهدد وجودها واستمرارها كسلطة انفصالية حاكمة لجزء حيوي من الشمال السوري، مضيفا أنه كان لا بد لها وفقا لحساباتها من عمل اختراق ما يخرجها من هذا المأزق ويخفف من الضغوط عليها من عدة اتجاهات، وهو ما دفعها لشن هجماتها الأخيرة.
وأشار النجار في تصريحات خاصة لـ"العين الإخبارية" إلى أن الهيئة التي مرت بعدة محطات معروفة وتعد من أكثر كيانات "السلفية الجهادية" تلونا، ولم تجد حلا لأزمتها إلا باللجوء إلى السلاح الذي هو في الأساس مصدر تمكينها وأداة فرضه للأمر الواقع للتعامل مع تزايد حدة المعارضة ضدها، لأن الهيئة لديها هاجس رئيسي يخيفها، وهو متعلق بفرضية أنها قد تلقى قريبا مصير من سبقها من أفرع الإسلام السياسي كجماعة الإخوان في مصر وخارجها، التي انتفض ضدها الشعب وعزلها عن السلطة بسبب فشلها وسوء إدارتها وتردي الأوضاع المعيشية.
وأشار الخبير في شؤون حركات الإسلام السياسي إلى تسارع الخطوات المتخذة من أجل تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، مضيفا أنه يمكن رؤية تطور على مستوى الرسائل بين دمشق وأنقرة، ومن الممكن أن تصب هذه الاتصالات في مصلحة الشارع المنتفض ضد هيئة تحرير الشام، ولذا فهي تلجأ لاستخدام ما بيدها من أوراق من تفويت الفرص على من يريدون إزاحتها وإنهاء تجربتها في المنطقة.
وأوضح هشام النجار إلى أن الهيئة لا تزال محضنا لكل المتمردين المسلحين ومرتكبي الجرائم والخارجين عن القانون، حتى الإرهابيين المطاردين من عدة فصائل في شمال سوريا، كما أنها تروج لنفسها باعتبارها تمثل انتصارا لـ"الثورة السورية" وأن مناطقها فقط هي مناطق سيطرتها فضلا عن براغماتية الحركة وقدرتها على التلون ولعبها على المتناقضات بين الأطراف، ومن هنا أتى التحرك الخشن الأخير عندما شعرت بوجود حالة توافقية بين تركيا وسوريا ستحرمها من ممارسة دور أداة الضغط والابتزاز في يد طرف ضد الطرف الآخر.
ووفق النجار فإن هيئة تحرير الشام تريد إفشال التقارب التركي السوري، لأنه سيترتب عليه تفاهمات جديدة تراعي طبيعة المصالح المشتركة بين البلدين، وسيكون هناك تنسيق أمني ومخابراتي من أجل مكافحة الإرهاب، وبالتالي سيتم العمل على تقويض وتفكيك التنظيمات المتطرفة المسلحة وإنهاء سيطرتها على مناطق بالشمال السوري، في مقدمتها هيئة تحرير الشام.
وألمح إلى أن الجانب التركي أكثر ما يهمه هو الحضور الكردي وتخفيض نفوذه ومساحات سيطرته، وعدم تشكيله أي تهديد للداخل التركي، على ضوء مشروع الدولة الكردية الداخلة في فضاء وجغرافيا سوريا وتركيا والعراق وإيران، وهذا يتقاطع مع مصلحة دمشق التي لا ترغب في منح الأكراد ما يمهد لإقامة كيانهم المستقل، معتبرا أن هذه المحددات يمكن من خلالها بلورة ملامح صفقة مفترضة تشمل التعاون في مسألة الأكراد لصالح الحسابات التركية، مقابل وضع حلول للوضع في شمال سوريا وإنهاء الكيانات المسلحة كهيئة تحرير الشام مع مراعاة المتطلبات الأمنية التركية على الحدود، وفقا للمعاهدات التي كان معمولا بها قبل الأحداث في سوريا.
نهج براجماتي يخالف رؤية أنقرة
من جانبه اعتبر توفيق خليفة، الكاتب والمحلل السياسي السوري، أن هيئة تحرير الشام تحاول عبر هجماتها الأخيرة احتواء حالة الغضب الشعبي تجاهها بعد المظاهرات التي عمتّ محافظة إدلب واتهام الجهاز الإداري والتنفيذي والأمني في الهيئة بالفساد وممارسة دور سلطوي تجاه سكان مناطق شمال غرب سوريا، سواء السكان المحليين أو النازحين من المناطق الأخرى التي هجرّوا منها.
وأضاف خليفة، في تصريحات خاصة لـ"العين الإخبارية"، أن الهيئة رأت أن الهجمات ضد قوات الجيش السوري من شأنها حشد الدعم الشعبي لها خاصةً في ظل السعي للتطبيع بين أنقرة ودمشق، لافتا إلى أن البعض يعتقد أن هيئة تحرير الشام معنية بالمصالحة بين تركيا والحكومة السورية، لكن الحقيقة غير ذلك، فالهيئة تعمل بشكل منفرد ولديها رؤية تختلف عن الرؤية التركية لكنها تتقاطع معها ببعض الأمور، فهي انسحبت من الطريق الدولي (M4) إلى حدّ معين، وأبقت على سيطرتها على مناطق أريحا وجسر الشغور المحاذيتين للطرق الدولية التي تم الاتفاق على إخلائها من الفصائل المسلحة بين تركيا وروسيا خلال مسار آستانة العسكري، وهذا لم يحصل بشكل كامل، بسبب تعارض المصالح بين هيئة تحرير الشام والسلطات التركية.
وذكر الكاتب والمحلل السياسي السوري إلى أن الجانب التركي يخشى تصعيد العنف في إدلب ما قد يتسبب في موجات نزوح كبير نحو الحدود الجنوبية التركية، وهذا سيشكل أزمة إنسانية كبيرة تضرّ بمصلحة أنقرة ومصلحة الهيئة بالوقت نفسه.
وألمح خليفة إلى أن قائد هيئة تحرير الشام أبومحمد الجولاني يتعامل مع الأوضاع في سوريا منذ سيطرة الجيش السوري على حلب عام 2016، بالقوة مع القوى الثورية المحلية لينفرد بحكم شمال غرب سوريا، وببراجماتية مفرطة مع القوى الخارجية.
وتابع توفيق خليفة أن الهيئة باتت تشكل قوة لا يستهان بها، ورقما صعبا بالمعادلة السورية، لا سيمّا بعد بسط سيطرتها على مساحات واسعة من إدلب وريف حلب الغربي، التي يشكل عدد سكانها اليوم نحو 5 ملايين نسمة، أي ربع سكان سوريا، ومن ثم لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن الحلول السياسية التي تخص الحالة السورية.
هذه رسائل الهيئة
بدوره، رأى سلطان الكينج، الباحث السوري المتخصص في الحركات المسلحة في شمال البلاد، أن هجمات تحرير الشام الأخيرة هي هجمات اعتيادية ولا يمكن اعتبارها بمثابة تصعيد ملحوظ في الوقت الحالي، لأن هيئة تحرير الشام وكذلك قوات الجيش السوري تشنان مثل هذه الهجمات ضد بعضهما بعضا من آن لآخر.
وأضاف الكينج، في تصريحات لـ"العين الإخبارية"، إلى أن هذه الهجمات تعتمد على الإغارة السريعة على نقاط التماس بين هيئة تحرير الشام وقوات الجيش السوري، مشيرا إلى أن هذه العمليات لها رسائل تريد تحرير الشام إيصالها للداخل والخارج، أولها أنها هيئة سياسية وعسكرية معًا وتستطيع أن تمارس السياسة عن طريق الجهاز المدني "حكومة الإنقاذ" المسؤولة عن توفير الخدمات للسكان في مناطق سيطرة الهيئة، وتنخرط في الحرب عن طريق الجهاز العسكري التابع لها.
وأوضح الباحث السوري المتخصص في الحركات المسلحة أن "هناك رسالة أخرى للداخل السوري، وهي أن الهيئة لا ترى إلا الحل العسكري ضد الحكومة السورية في دمشق، كما أنها تريد أن تقول إنها مستعدة لما هو قادم، إذ تتوقع أن يشن الجيش السوري هجوما كبيرا على إدلب والشمال السوري، ولذا فهي تريد أن تثبت نفسها وتصور للسكان في الشمال أنها الجهة الوحيدة التي ستستطيع المواجهة".
وذهب إلى أن هيئة تحرير الشام تريد بعث رسالة للجانب التركي والخارج عموما، مفادها أن الاتفاقات بينه وبين دمشق لن تجعلها تحيد عن المواجهة العسكرية ضده، وأن كل الاتفاقات الدولية والإقليمية لن تثنيها عن هذا النهج، وهذه الرسالة هي دعوة علنية لدعم الهيئة من أي طرف يرى إمكانية دعم الحركات المسلحة في شمال سوريا، معتبرا أن الهجمات الأخيرة كانت استغلالا للثغرات على جبهات المواجهة بين الهيئة والجيش السوري لكنها حققت هدفا آخر هو ضرب التفاهمات بين دمشق وأنقرة.
وعن مستقبل هيئة تحرير الشام، قال الكينج إن مستقبلها جزء من مستقبل الفصائل السورية في الشمال ككل، بمعنى أن الحكومة السورية إذا قررت إعادة تلك المناطق إلى سلطتها فسيكون عليها استئصال الهيئة، باعتبارها رأس الحربة للفصائل السورية في الشمال، مضيفا أن تحرير الشام تحت قيادة الجولاني تتبع النهج البراجماتي سياسيا وعسكريا، وبالتالي تتلون حسب متطلبات المرحلة.
وتوقع الكينج أن تتحول هيئة تحرير الشام لشبه حزب سياسي حاكم له أذرع عسكرية على غرار نموذج حركة حماس في قطاع غزة، مبينا أنها لا تواجه، حاليا، المخاطر التي كانت تواجهها دوليا فيما يتعلق بتصنيفها كجماعة إرهابية لتعاونها مع التحالف الدولي للقضاء على خلايا داعش، والإطاحة بقيادات القاعدة وكسر شوكة المتطرفين التقليديين في إدلب وما حولها، مع أنه لم يتم إزالتها بعد من قوائم الإرهاب الدولية.
وأنهى الكينج كلامه بالقول طالما إن الفصائل المسلحة التابعة لحكومة الائتلاف السوري لم تستطع أن تبني كيانا عسكريا وسياسيا مسيطرا وفاعلا في شمال سوريا، فالبديل سيكون تحرير الشام التي استطاعت استغلال غياب قوة معتدلة منظمة لها قبول إقليمي ودولي للتواجد، وإقامة إمارتها أو شبه دولتها الخاصة في شمال غرب سوريا.