تجد سوريا نفسها اليوم في خضم العواصف والتيارات التي تهبّ على المنطقة بمختلف أشكالها واتجاهاتها، شاءت ذلك أم أبت، وهي التي لم تشفَ بعد من جروحها، ولم تغادر حتى الآن دائرة الأخطار المحدقة بها، سواء من حيث دوافعها المضمرة أو من حيث غاياتها المبهمة.
واقعها الموضوعي يفصح عن جملة حقائق باتت شاخصة على أرضها، وفرضت عليها أن تكون متفاعلة، قسرياً مع محيطها، وجميعها ناجم عن متغيرات جيوسياسية أفرزتها سنوات الصراع فيها وعليها، والتي طالت جميع مرافقها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية من جانب، وحفزت عوامل الصراع الإقليمي والدولي بين القوى المنخرطة بأحداثها بشكل أكبر من جانب آخر، مما أسهم في اندفاع البعض لاستغلال هذه المعطيات، والعمل.. إما من أجل توسيع دوائر نفوذه وحضوره في الإقليم، وإما لاستغلال الصراع في إحداث اختراقات تتجاوز حدود الإقليم تمهيدا لمقايضات كبرى حول مصالحه في قضايا وساحات أخرى، وكلها تنسجم في جوهرها مع سردية كل طرف تبعا لما يتحقق له من مآرب.
أبرز تجليات الواقع السوري الراهن تمثلت في ارتدادات حرب غزة عليها بمستويات وأساليب متعددة، فبعض القوى المشتبكة ميدانيا وسياسيا في الحرب، سواء كانت دولاً أم مليشيات أو فصائل، وجدت في الساحة السورية ثغرة وملعبا للمناكفة وللمبارزة لإيصال الرسائل أحيانا من خلف الستار، وَسَعَت لتوظيف هذه الساحة وتوجيهها وجهة تخدم مصالحها دون مراعاة لمصلحة سوريا وشعبها.
معاناة السوريين وقسوتها معلومة للجميع، والظروف المعقدة التي تعيشها، دولة وشعبا وأرضا، لا تخفى على ذي بصيرة، ومع ذلك لم يعفِها واقعها من التأثر بمجريات الرياح التي تعصف بمحيطها وبجوارها على تخوم حدودها من أرض فلسطين، بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا، ومحددات الحاضر والمستقبل.
حرب غزة بدت في جانب منها، وتحديدا من خلال مجهر الساحة السورية الكاشف، بمثابة مرآة عاكسة لمصالح الآخرين المتصارعين أيضاً في سوريا وعلى سوريا، وبرهنت على أن الاستثمار السياسي والمعنوي من قبل البعض لا يقتصر على قضية العرب الأولى فلسطين، فالرسائل الميدانية المتبادلة بين تلك القوى، سواء تلك التي مرت عبر علب البريد السورية وجغرافيتها أو تلك التي مرت من خلال علب بريدية بجوارها، جميعها اتخذت أنماطا مغايرة لما كانت عليه في جولات صراع سابقة، إذ اكتفت بإشهار وجود مرسليها وحسب، وهو ما ينبغي التوقف عنده مليا، وقراءته انطلاقا من مصلحة سوريا التي تكابد وتعاني على طريق الخلاص الذي تنشده.
السيناريوهات بشأن سوريا ومستقبلها وكيفية خروجها من محنتها لا تزال كثيرة، والاحتمالات المتعلقة بمسارات الحلول تبقى في عداد التكهنات لأسباب مختلفة، منها داخلي مرتبط بجمود المسار السياسي وانسداد آفاقه وعدم قدرة الأطراف السورية، حكومة ومعارضة، على إنتاج صيغة وسط تكون تقريبية، يتفقان أو يتوافقان عليها، لتكون منطلقا نحو توسيع رقعة التفاهمات والاتفاقات، وتؤسس للانتقال إلى مرافئ الوئام الوطني، وتطوي صفحة دموية من تاريخ البلاد والعباد، صفحة ربما كانت الأكثر مرارة وقهرا واستلابا لحاضرهم ومستقبلهم.
ومن الأسباب ما هو خارجي حيث تغذي القوى الخارجية أطراف الصراع الداخلي بما يعزز سطوتها ومكاسبها ويحقق مصالحها المتنافرة والمتعارضة أساسا.
محرك الرياح التي تهب في المنطقة وعليها هو بلا ريب فلسطين، وسوريا التي تقع في محور حركة هذه الرياح لن تكون بمنأى عن مجرياتها ومخلفاتها وآثارها، ففي حال سلكت قضية فلسطين دروب السلام، فلسوريا منه نصيب، وإن هي انزلقت في متاهات صراع غير محمود وتوسعت ساحاته وتعددت فلن تكون بعيدة عن لظى نيرانه.
في الحديث عن فلسطين تحضر الخصوصيات المشتركة، الأخلاقية والسياسية والأمنية، مع ما تتضمنه من عمق تاريخي وحضاري، وما تعنيه حاضراً ومستقبلاً، وتتراجع بقية الحسابات لصالح القضية الأم.. وسوريا، رغم كل ما يثقل كاهلها ليست استثناءً في هذا المضمار، ولن تكون بمعزل عن اللهيب إذا ما تجاوز الحدود.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة