يعيش حزب العمال البريطاني أزمة داخلية حقيقية بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة.
ثمة تصدع يمتد من القاعدة الشعبية إلى وزراء حكومة الظل، ويقسم العمال بين مؤيد لاستمرار الحرب ومطالب بوقفها على الفور، ومع إصرار الزعيم كير ستارمر على تبني الخيار الأول حتى الآن، تكبر الأزمة ككرة الثلج.
ستارمر يواجه خيارين أحلاهما مر، كما يقال، إن طالب بوقف الحرب انقلب عليه أصدقاء إسرائيل في الشارع وأروقة السياسة، واتهم العمال مجددا بمعاداة السامية، وإن استمر بتجاهل أصوات المعارضين لدعم تل أبيب فهو يغامر بخسارة أصوات المسلمين ومؤيدي فلسطين في الانتخابات التي ينتظرها بشغف.
المعارضون للحرب على قطاع غزة بين صفوف العمال يريدون وقفا فوريا لإطلاق النار لأنه السبيل الوحيد لإنهاء "الإبادة الجماعية" التي تمارسها إسرائيل بحق المدنيين في القطاع، أما ستارمر فيرفض هذا المطلب لأنه "يعد نصرا لحركة حماس، ويبقيها قادرة على استهداف الإسرائيليين كلما سنحت الفرصة".
برأي زعيم العمال سعي إسرائيل للقضاء على حماس التي هاجمتها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سبيل لا رجعة عنه. وقد ألمح ستارمر في خطابه أمام معهد "شاتمهاوس" في لندن مؤخرا، إلى أن أمريكا وبريطانيا ودول عدة في الاتحاد الأوروبي وحول العالم تؤيد خطة تل أبيب التي ستؤدي لمقتل آلاف المدنيين".
المطالب بوقف الحرب تفجرت بين "العمال" بعد مقابلة أجراها ستارمر مع إذاعة "ال بي سي" في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قال فيها إنه يؤيد قطع إسرائيل للماء والكهرباء عن الفلسطينيين، في إطار ردها على هجوم حركة حماس، ورغم تنصله من هذه التصريحات عدة مرات إلا "أن السيف سبق العذل"، كما يقال.
الاحتجاج على كلام ستارمر تجسد على الفور في استقالة ثلاثة من أعضاء مجالس البلديات في مدن بريطانية مختلفة، ومع مرور الوقت ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 23 شخصا، تسعة منهم أعضاء في بلدية أكسفورد وحدها، وقد أدت استقالتهم إلى خسارة "العمال" لأكثريته في المجلس لصالح حزب المحافظين.
خلال 3 أسابيع، اتسع الانقسام بين صفوف العمال أفقيا وعاموديا، كثيرون جدا من أعضاء الحزب انضموا لكل أشكال الاحتجاج على الحرب في المملكة المتحدة، أما قادة الحزب من نواب ومسؤولين فوضعوا ستارمر أمام امتحان صعب جدا لم يعرف مثله منذ توليه زعامة "العمال" في 4 أبريل/نيسان عام 2020.
تسعة من وزراء حكومة الظل العمالية يريدون من ستارمر المطالبة بوقف الحرب، هؤلاء ينتمون لمجموعة أوسع من أعضاء مجلس العموم تزيد على 100 نائب عمالي يؤيدون ذات المطلب، إضافة لعمدة مدينة لندن صادق خان وعمدة مانشستر أندرو برنهام، ومعهما رئيس الحزب في اسكتلندا أنس سروار.
الغضب العمالي دفع ستارمر أولا إلى زيارة مسجد في ويلز للتراجع عن تصريحاته التي وصفت بالمخالفة لمبادئ الحزب، وعندما فشل الأمر أصدر بيانا زاد الأزمة تعقيدا، فاضطر قبل بضعة أيام إلى إلقاء خطاب في معهد "شاتمهاوس" لعل المحنة تنتهي، ولكن وحدة الحزب ما زالت على المحك حتى الآن.
أندي ماكدونالد، أحد نواب "العمال" المطالبين بوقف الحرب، ولأنه شارك في تظاهرة مؤيدة لفلسطين الأسبوع الماضي، وطالب بالسلام لجميع سكان المنطقة الممتدة بين الفرات والنيل، علقت عضويته في الحزب، وأحيل إلى التحقيق البرلماني بتهمة "معاداته للسامية"، التي لطالما أقلقت كير ستارمر.
الزعيم السابق للعمال جيرمي كوربين، والذي عانى الأمرين بسبب "معاداة السامية" خلال السنوات الماضية، تحول اليوم إلى بطل لدى المطالبين بوقف الحرب، والتف حوله كثيرون من أعضاء الحزب ونوابه، وكل هذا في سبيل زيادة الضغط على ستارمر والأطراف الداعمة لإسرائيل في الشارع البريطاني.
ثمة استطلاع حديث للرأي أجرته شركة "يوجوف"، يقول إن 42% من الناخبين الذين صوتوا للعمال عام 2019، يجدون أن ستارمر قد تعامل بطريقة خاطئة مع الحرب، فيما يؤيد نصف ناخبي "المحافظين" ما فعله رئيس الوزراء ريشي سوناك في ذات الأمر. رغم أن الاثنين لم يؤيدا أي مقترح لوقف الحرب.
صحيفة "الاندبندنت" نقلت عن نائب عمالي لم تسمه، أن قلقا متزايدا بشأن تأثير "حرب غزة" على نتائج الانتخابات البريطانية المقبلة، يشغل بال قيادات الحزب اليوم. منوهاً إلى أن النواب المسلمين في مجلس العموم يحذرون من خسارة أصوات الجالية في حال استمرار الأوضاع على هذا النحو في قطاع غزة.
النقاش الداخلي بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة تزداد وتيرته بين "العمال" مع اتساع رقعة الموت والدمار في القطاع. ولعل التمرد العلني الذي أقدم عليه أنس سيروار مؤخرا هو المرحلة المقبلة في الشقاق الذي يعيشه الحزب. أو ربما نشهد موجة استقالات لنواب في البرلمان ووزراء في حكومة الظل.
ثمة تجربة سابقة لحزب العمال في هذا السياق عاشها الزعيم الأسبق توني بلير عندما رفض إدانة حرب إسرائيل على لبنان عام 2006. لم يوفق بلير حينها في قراره، وازدادت خصومته مع نواب الحزب حتى استقال من منصبه كرئيس للوزراء في ذات العام. ولكن هل يمكن أن يتكرر الأمر ذاته مع كير ستارمر؟
في خطابه أمام "شاتمهاوس" تعهد زعيم المعارضة بالحفاظ على وحدة "العمال"، والخروج به من الأزمة الراهنة ليبقى متصدرا فرص الفوز بالاستحقاق البرلماني المقبل، وانتزاع مفاتيح المنزل رقم 10 من المحافظين. ولكن الحكمة تقول "ثلاث لا تعود، الكلمة إذا خرجت، والسهم إذا انطلق، والوقت إذا مضى".
التصريحات "المؤذية" كما وصفها المستقيلون من الحزب قد خرجت من فم ستارمر، وسهم التمرد عليه نصرة لسكان غزة قد انطلق، صحيح أن الوقت لم يمض بعد للمطالبة بوقف الحرب، ولكن يبدو أن زعيم العمال لا يدرس هذا الخيار، وقد وضع كل بيضه في سلة تأييد ودعم إسرائيل، غالبة كانت أم مغلوبة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة