يوما بعد آخر تتكشف الصعوبات، بل المفخخات التي تعترض مساعي تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة.
هي ليست مستحدثة ولم يتم زرعها بالتزامن مع انطلاق الجهود الدبلوماسية واللقاءات الأمنية التمهيدية؛ إنها ببساطة ألغام تجذرت على هذا الطريق بمرور أيام الحرب، وأبقاها تنافر المصالح وتعارضها بين الجانبين.
حين أميط اللثام عن الرغبة في تسوية الصراع بين البلدين الجارين كان من المفترض إدراك كل منهما لحجم التعقيدات الناشئة بينهما والانخراط في عملية اجتراح آليات هادفة ومحددة بوضوح وقابلة للتنفيذ لتعزيز خيار الحل.
تدرجت اللقاءات والمواقف صعوداً بشكل حثيث حتى بدا الانفراج قاب قوسين أو أدنى، دقت لدى الجانب السوري ساعة التاريخ بعقاربها التي تؤشر إلى الغد في حركة دورانها الطبيعية منبهة إلى الأمس وعِبَرِه وعظاته التي لا تموت بل تبقى في حالة كمون، وبرزت في حسابات الجانب التركي الجغرافيا بحمولاتها المتقلبة بين الأخطار المقلقة لأمنها وبين الأعباء الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
صرخةُ التاريخ وتمردُ الجغرافيا شكّلا ثنائياً أربك حسابات السياسة والسياسيين لدى الطرفين. بدا وكأن المشهد عاد إلى نقطة الصفر، لا بل برزت في أحيان كثيرة نقاط افتراق توحي بصعوبة، إن لم نقل باستحالة التطبيع.
المسألة لا تكمن في الخلاف على ملفات بعينها دون غيرها فحسب؛ المسألة في جوهرها الحقيقي هي قضية صراع متشابك السياقات، متعدد اللاعبين والأهداف.
المعضلة تكمن في ظهور معادلة غير متوازنة أفرزتها مجريات الحرب على الأرض، وبالتالي لا يبدو أن البناء عليها يستقيم مع الواقع الناشئ المستجد لدى الطرفين؛ يرفض كل منهما مقاربات الآخر من حيث المبدأ، فالوجود العسكري التركي في بعض مناطق الشمال السوري يعوق أي إمكانية تقدم سياسي مع سوريا قبل أن تنسحب القوات التركية منها، وهو مطلب سوري سيادي بامتياز.
الدبلوماسية الروسية نجحت في تليين المواقف بشكل نسبي حين أعلنت دمشق قبولها بتعهد أنقرة رسمياً بالانسحاب ولو تدريجياً من أراضيها بضمانة روسية.
الجانب التركي قفز إلى الحديث عن وجوب قيام الدولة السورية والجيش السوري بضمان أمن الحدود التركية الجنوبية درءاً لخطر تعتقد أنه داهم من القوى الكردية التي تسيطر على شرق الفرات.
القراءة الموضوعية لهذا المشهد ربما تساعد في فهم الحقائق على الأرض، وفي تفسير التعقيدات التي تعرقل التفاهمات ومن ثم الاتفاقات المنشودة.
وعليه؛ فإذا ما وافقت سوريا على مطلب أنقرة بانتشار وحدات من الجيش السوري في مناطق شمال سوريا وصولاً إلى بعض المناطق الشمالية الشرقية للبلاد بحيث تشكل خطاً عازلاً بين القوى الكردية المسلحة وبين الحدود التركية الجنوبية؛ فهل تسمح القوات الأمريكية الموجودة في تلك المنطقة التي تغطي وجود الوحدات الكردية المنتشرة فيها وتدعمها، بانتشار وحدات من الجيش السوري؟
السؤال الذي لا يقل موضوعية عن سابقه هو؛ هل تضمن تركيا عدم الاشتباك بين وحدات الجيش السوري التي تطالب بانتشارها وبين فصائل المعارضة السورية المسلحة التي تنتشر في الشمال والشمال الغربي السوري وهي مناطق تخضع لتركيا، في حال تموضعت هناك؟
إذن؛ أمام هذه الأحجية يتضح أنه لا يمكن لطرفٍ العملُ على الأرض دون تفاهم مع الآخر، وليس بإمكان أحدهما حمايةُ مصالح الآخر قبل ضمان مصالحه.
ما حظوظ فض الاشتباك بين البلدين الجارين، وإعادة تدوير عجلات قطار التطبيع بينهما؟
أحد عوامل التعقيدات في الملف السوري بكامل عناصره يتمثل في الوجود الأمريكي بصبغته العسكرية والسياسية على حد سواء، إضافة إلى تعدد اللاعبين الآخرين كالروس والإيرانيين، وبذلك لا تقتصر التعقيدات على كثرة اللاعبين فحسب، بقدر ما تتأتى من الصراع على النفوذ وعلى المشاريع بينهم، فواشنطن حليف أطلسي لتركيا، ويتقاسمان مصالح جيوسياسية في المنطقة وجيواستراتيجية أوسع في مناطق أخرى من العالم، وبالتالي تبدو أنقرة نظرياً أكثر التصاقاً بالولايات المتحدة وأعمق اندماجاً من حيث المصالح المشتركة، ما يجعل السؤال مشروعاً عن سبب تقاعس الأمريكيين عن القيام بما يلزم لطمأنة حلفائهم الأتراك بشأن مخاوفهم إزاء الخطر الماثل ضدهم في شرق الفرات طالما أن واشنطن هي التي تسيطر على تلك المنطقة وعلى الوحدات الكردية وتضبط إيقاعها ووجودها وتحركاتها.
بالمقابل، يبقى السؤال معلقاً بلا إجابة حول سبب إحجام تركيا عن التفاوض مع الأمريكيين والاتفاق تحت صيغة معينة بشأن توفير حماية لمصالحهم القومية التي تقول إن تهديدها قادم من شرق الفرات، حيث السيطرة الأمريكية على المنطقة أمنياً وعسكرياً واقتصادياً.
حتى اللحظة يبدو أن قطاري التطبيع بين سوريا وتركيا يسيران في خطين متوازيين، لكن ثمة محطات على سكة كل منهما يمكن أن تكون فرصةً للقاء وجسراً للتفاهم. الزمن لا يعمل في صالح أي منهما بحكم تحديات الجغرافيا ومتطلبات المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة