لم تبقَ مأساةٌ أو ملحمةٌ أو تراجيديا جادت بها اليد البشرية أو المخيلة الأدبية إلا وعاش السوريون تفاصيلها.
مختزلين الإرث البشري الواقعي والمتخيّل في قضية الشعب الذي بات في وسط الهاوية لا على حافتها، بل إنّ الأمر بات أشنع من كل ما يمكن للإنسانية أنْ تتخيله من بؤس وشقاء؛ لدرجة أنك لا تعلم حتى في دعائك مناخيّاً ماذا تلعن وماذا تمجّد من الطبيعة ذاتها، فلا الصيف اللاهب يطاق ولا الشتاء القارس يحتمل، ولا حتى الربيع المدهوس تحت جنازير الدبابات والصامت إلا من هدير الطائرات يُرتجى.
لا يسعك عندما ترى تلك الفتاة السورية الصغيرة التي لا تعي من الحياة إلا ما يقع عليها من عذاب، وما تعانيه من سياط مباشرة على جسدها الغض بفعل البرد، إلا أن تجلد ذاتك ونفسك قبل البشرية والضمير الإنساني بأقسى العبارات التي تخرجك من حيز الإنسانية إلى خانة الوحوش.
المؤلم في الأمر أنّ هذا الحال ليس خاصاً بتلك الطفلة البريئة وحدها؛ إنما هو حال الآلاف من الأطفال السوريين الذين لا يقيهم برد الشتاء وحر الصيف إلا ملليمترات من قماش الخيام البلاستيكية التي لا تقيهم إلا العيون الناظرة، ولكن لعل ذلك هو المراد منها فحسب، نعم، فربما نُصبت لهم ليغيّبوا وراءها بكل تفاصيل معاناتهم ومأساتهم، لتبقى قضيتهم طي الأدراج السياسية التي لا ترى فيهم سوى ورقة تجارية هزيلة في صالات القمار السياسي.
في الواقع، كثيرة هي المواد الإعلامية المسروقة لهؤلاء الأطفال، بكل ما تعانيه طفولتهم البريئة من حربٍ قذرةٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لتعالج تلك المواد جانباً ضيقاً من معاناتهم أو ربما وفي أحسن الأحوال وبعد الصدى الإعلامي الضخم الذي تحققه تلك المادة، ينتفض الضمير الإنساني لحل مشكلة الطفل موضوع المادة المنشورة، ليتم النصر الأجوف والعودة إلى الركون وراء شاشات الأجهزة الذكية على الأرائك الوثيرة والمنازل الفارهة، فهذا ما حدث من قبل مع الطفل السوري بائع البلاستيك، والطفل السوري بائع العلكة، والأطفال الأخوة الذين يجمعون الأعشاب والحطب لتأمين رغيف خبزٍ على حساب دراستهم وتحصيلهم العلمي وغيرهم الكثير.
أما على الصعيد المحلي، ونعني به السوريين على وجه الخصوص؛ قادة وسياسيين وشعباً داخل وخارج الوطن، فإنّ المسؤولية عليهم أكبر من ذلك بكثير، فدموع تلك الطفلة تستحق أن تنزع من أجلها كل الرتب العسكرية والمناصب السياسية والمهام الفصائلية والشعارات الحزبية للف يدها التي تؤلمها من البرد بحلٍّ سوريٍّ ينقذ ما تبقى من السوريين، بل على الأقل ما تبقى من الأطفال السوريين قبل أنْ يأتي يوم قد لا تجدون فيه من تحكمونه، أما فيما يخص المواطنين السوريين ولا سيما المهاجرين، والكلام هنا بعد تقدير معاناتكم وظروفكم الصعبة من هجرة وغربة ولجوء، إلا إننا وإياكم ملامون وبإمكاننا فعل الكثير، من مساهمات لدى البرلمانات والمنظمات الشعبية والاجتماعية والسياسية والدولية لتوفير الضغط اللازم إعلامياً واجتماعياً وإنسانياً لمحاولة إيجاد حدٍّ لتلك المعاناة، بالإضافة إلى مساعدة هؤلاء النازحين مادياً من خلال اتصالات مع المنظمات الدولية وتفعيل المبادرات السورية في المهجر ضمن عمل ممنهج تحت غطاء القانون الإنساني والقوانين الناظمة لبلدان المهجر وبإشراف سوري لانتشال هؤلاء الأطفال وذويهم من واقعهم البائس، بالإضافة إلى تكريس التسليط الإعلامي على ما يقاسونه من واقع صادمٍ.
وفي نهاية المطاف، لا يسعنا إلا الاعتذار واحتقار الذات أمام تلك الطفلة ودموعها التي لم تسقط على الأرض إلا بقدر سقوطنا، فنحن من سَقط يا بُنيتي؛ سياسياً وعسكرياً وحتى إنسانياً سقطنا، قد لا تعلمين يا صغيرتي بأن تحت قدميكِ المرتجفتين برداً بحراً من النفط الذي يسرق ليل نهار ببنادق قد دفعنا ثمنها يوماً من خبزنا ولحمنا، لتكوني كبائعة الكبريت الصغيرة التي لطالما قدمت أعواد الثقاب لإشعال مواقد ومدافئ الانتهازيين واللصوص بكروشهم الشرهة وأسرتهم الوثيرة، إلا أنها تنطفئ وتعجز عن تدفئة تلك اليد الصغيرة البريئة لتموت برداً وجوعاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة