واشنطن وأنقرة.. علاقات متوترة يؤججها ملف الأقليات
عقوبات الكونجرس الأخيرة تمثل نقطة فاصلة؛ إذ وضعت العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية في مفترق طرق.
دخلت العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة مناخ الشحن على خلفية اعتراف مجلس النواب الأمريكي في 29 أكتوبر/تشرين الأول المنقضي بأن الأحداث المتعلقة بالأرمن في شرق الأناضول عام 1915 إبان الحرب العالمية الأولى كانت "إبادة جماعية"، فضلاً عن فرض عقوبات جديدة على أنقرة بسبب توغلها في شمال سوريا، باعتبار أن السياسة التي تتبنها أنقرة من خلال عسكرة الأزمة شرق الفرات ربما تقلب الأمور في سوريا رأسا على عقب، ناهيك عن تأثيراتها المحتملة على مسارات تسوية الأزمة.
ولم تكن قرارات الكونجرس وحدها كاشفة عن عمق التوتر بين البلدين، فقد خفف الرئيس دونالد ترامب قبل أيام من خططه للانسحاب من سوريا بعد رد فعل عنيف من الكونجرس، بما في ذلك الجمهوريين، الذين يقولون أن الانسحاب أعطى الفرصة لتوغل طالما هددت به أنقرة في من أكتوبر/تشرين الأول المنقضي ضد قوات سوريا الديمقراطية حليفة واشنطن في المعركة ضد تنظيم "داعش" منذ عام 2014.
عقوبات متنوعة
تحرك واشنطن لمعاقبة أنقرة بسبب تجاوزتها قديماً، واليوم ضد الأقليات ليس هو الأول من نوعه، فعشية بدء عملية "نبع السلام" العسكرية، هدد ترامب نظيره التركي بتدمير اقتصاد بلاده، وفي عام 2017 انتقد الرئيس الأمريكي الجديد حينها دونالد ترامب عمليات القتل التي تعرض لها الأرمن باعتبارها واحدة من أسوأ الفظائع الجماعية في القرن العشرين.
كما قدما عضوا مجلس الشيوخ اليندسي غراهام وكريس فان هولن مشروع قانون لفرض عقوبات صارمة على تركيا بسبب توغلها ضد الأكراد شرق الفرات في 9 أكتوبر/تشرين الأول المنقضي، ونص مشروع القانون الذي جاء بقيادة الجمهوريين على فرض عقوبات على المسؤولين الأتراك بسبب الغزو، كما يعاقب أنقرة على شرائها منظومة الدفاع الروسية S400.
أما العقوبات التي مررها مجلس النواب مؤخراً فقد اعترفت بمجاز الإبادة الجماعية ضد الأرمن، وتثير قضية الأرمن خلافاً بين تركيا وعدد من الدول التي وصفت مذابح الأرمن على يد القوات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى بأنها "إبادة". فيما تقول تركيا إن الأحداث راح ضحيتها آلاف الأتراك والأرمن.
كما تضمنت فرض غرامات مالية وتشديدات على تأشيرات الدخول بحق مسؤولين أتراك لهم صلة بالتوغل شمال سوريا، وكذلك فرض عقوبات على وزير الدفاع التركي ووزير المالية ناهيك عن إعادة استهداف بنك "خلق" التركي، باتهامه مجدداً بالتحايل على العقوبات المفروضة على إيران من جديد، وحدد مجلس النواب الأمريكي جلسة استماع في الخامس من نوفمبر الجاري بشأن اتهام البنك بالمساعدة في مخطط غسل الأموال الإيرانية. أيضا تنص العقوبات الجديدة على حظر بيع الأسلحة إلى تركيا، وكذلك معاقبة الأجانب الذين يزودون القوات التركية في سوريا بالأسلحة.
العقوبات الأمريكية المتوقعة على تركيا تدفع ٧ آلاف شركة ألمانية للهروب
العقوبات الأمريكية على تركيا.. من حظر بيع السلاح إلى منع دخول الوزراء
آثار مؤلمة
لم تخف أنقرة في كل مرة تتجه فيها واشنطن إلى محاولة ضبط السلوك التركي غضبها الشديد؛ إذ تتصاعد منذ أزمة القس الأمريكي برنسون في العام الماضي التصريحات والتصريحات المضادة بين البلدين على خلفية فرض واشنطن عقوبات على النظام التركي، ورفع تركيا مطلع عام 2019 من نظام الأفضليات التجارية.
غير أن عقوبات الكونجرس الأخيرة تمثل نقطة فاصلة؛ إذ وضعت العلاقة بين البلدين في مفترق طرق، وظهر ذلك في اعتبار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الأمر "محاولة للانتقام من بلاده على خلفية إحباطها للمكائد التي استهدفتها في سوريا". ووصف القرار المتعلق بمذابح الأرمن والاعتراف بها بأنه قرار "مخز" اتخذه من يستغلون التاريخ في السياسة.
وربما يفتح الاعتراف الأمريكي بمذابح الأرمن الباب واسعاً أمام مطالبة أنقرة بتعويضات مالية، ناهيك عن مطالب بإعادة الممتلكات الأرمينية، وهذا خط أحمر بالنسبة إلى تركيا يمس سيادتها وأراضيها. فالمسألة هنا تتجاوز التعويض المالي أو حتى ترميم بعض الكنائس الأرمينية والاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية، وتصل إلى المطالبة بالأراضي التي تعرف بأرمينيا الغربية، حيث جبل "أرارات" الذي يعد رمزاً وطنياً للأرمن، في المقابل فإن الاعتراف بمذابح الأرمن يمثل في جوهره إدانة للقادة الوطنيين الأتراك الذين أسسوا الدولة التركية، ويحتلون مكانة قومية كبيرة في وجدان الأتراك وأحزابهم على اختلاف مشاربها القومية والدينية واليسارية.
والأرجح أن ثمة تداعيات مؤلمة للتوجه السلبي للمؤسسات الأمريكية ضد تركيا، أولها أن هذا التوجه نحو مزيد من العقوبات على أنقرة، قد يسهم في توسيع دائرة الخلافات مع واشنطن، خاصة أن الكونجرس لا يزال يرى ضرورة فرض مزيد من العقوبات على أنقرة بعد اجتاحها مناطق شرق الفرات ناهيك عن ممارسة مشرعون أمريكيون ضغوطات متزايدة على إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لفرض عقوبات مشددة على تركيا بسبب شرائها منظومة الصواريخ الروسية S400. وقبل انتهاء عطلة الكونجرس في أغسطس/آب 2019 حضت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب في تغريدة على "تويتر" الإدارة الأمريكية على فرض عقوبات على تركيا، بسبب تسلمها الدفعة الثانية من منظومة الصواريخ S400.
في هذا السياق، فإن زيارة أردوغان المقرر لها 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري إلى واشنطن، قد تكون أكثر توتراً، خاصة أن ثمة حجما كبيرا من الضغوط تتعرض لها المؤسسات الأمريكية لمعاقبة تركيا على إصرارها على تبني القوة الصلبة في أزمات الإقليم، وبخاصة في شمال سوريا، ومنطقة شرق المتوسط من خلال الإصرار على مباشرة عمليات التنقيب عن النفط والغاز قبالة شواطئها، أو في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص التركية من دون اتفاقات قانونية لتعيين حدودها البحرية، وتحديد مناطقها الاقتصادية الخالصة ناهيك عن سعى أنقرة إلى عسكرة الأزمة في شرق المتوسط عبر مناورات أو تحرشات عسكرية بجيرانها.
على صعيد شأن، فثمة تداعيات متوقعة على الاقتصاد التركي بفعل العقوبات الأمريكية، وبدا ذلك في خسارة الليرة التركية نحو 0,2% من قيمتها أمام الدولار فور موافقة مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة على فرض عقوبات جديدة على تركيا بسبب توغلها في شمالي سوريا. وأصبحت "الليرة" الأسوأ أداء بين عملات الأسواق الناشئة خلال أكتوبر/تشرين الأول المنقضي.
وتعاني أنقرة أزمة اقتصادية غير مسبوقة، إذا فشلت كل الإجراءات الحكومية في محاصرة الأزمة والقفز عليها، حيث وصل معدل البطالة إلى نحو 13%، بينما قفز التضخم إلى نحو 15,5%.
ختاماً، يمكن القول أن ثمة تداعيات مؤلمة قد تترتب على العقوبات الأمريكية على تركيا، وأن فاتورة التوغل في شمال سوريا أصبحت باهظة المنطقة، وقد لا تعوضها المكاسب النوعية التي حققتها تركيا في عملية "نبع السلام"، خاصة أن جزءا معتبرا منها مرتبط باستمرار التفاهمات على الأرض مع روسيا فضلاً عن أن واشنطن لا تزال لديها القدرة على أن تكون ورقة ضاغطة في المشهد السوري، ولعل ذلك يفرض خيارات ضيقة على تركيا في علاقتها المستقبلية مع واشنطن، ويضعها في مفترق طرق.