الخبر السار أن هذه المعضلة لم تثن العلماء عن وضع معايير وعناصر تختزل هذا التشتت للوصول إلى تعريف مُحكم للإرهاب سأستعرضها في مقال آخر.
في الأول من نوفمبر عام 1955م انفجرت طائرة رحلة يونايتد آيرلاينز رقم 629 بعد إقلاعها بسبع دقائق من مطار دينفر، نتج عن الحادث مقتل جميع الركاب البالغ عددهم 44 شخصاً.
بعد التعرف على الجاني جون غراهام البالغ من العمر 22 سنة، وتعقب آثار المتفجرات التي دسّها في حقيبة والدته التي لاقت حتفها في هذه الرحلة بعد ساعات من توقيعها لبوليصة التأمين على الحياة في قاعة المطار قبل أن تركب الطائرة، بحيث سيتحصل ابنها جون على مبلغ التعويض في حال موتها وهو ما تحقق. أعلن مكتب التحقيقات الفدرالية القبض على الجاني وأن هذا التفجير لا يُعد (هجوماً إرهابياً).
يبقى التساؤل المطروح في كافة الأدبيات والمؤتمرات والأبحاث التي تُعنى بالإرهاب عن تعريفه، وهذا التساؤل المثير للجدل يدفعنا للبحث عن أسباب هذه المعضلة، ومدى اعتبار النشاط أو الحادثة أو الجماعة إرهابية من عدمه
حادثةٌ أُخرى في هيثرو عام 1986م ودّع نزار هنداوي المنتمي لإحدى حركات المقاومة خطيبته الأيرلندية آن ماري لتستقل رحلة طيران ال-عال رقم 16 المتجهة الى تل أبيب، بعد أن دس آلة حاسبة وحقيبة في أغراض خطيبته الحامل منه في شهرها الخامس ووعدها باللحاق بها إلى اسرائيل للزواج منها، وبعد تفتيش امتعتها تم العثور على مواد متفجرة في حقيبتها تم تفعيلها بواسطة الآلة الحاسبة، وجرى القبض على هنداوي الذي ثبت تورطه بالعملية وتمت إدانته والحكم عليه بالسجن 45 عاماً بتهمة الإرهاب.
على الرغم من التشابه بين الحادثتين إلا أن الاختلاف الجوهري لوصم الحادثة بالإرهابية هو الدافع، فهنداوي بيّت نية سياسية من وراء محاولة تفجير الطائرة في حين كان دافع غراهام شخصياً صرفاً وهو الحصول على أموال التعويض.
يبقى التساؤل المطروح في كافة الأدبيات والمؤتمرات والأبحاث التي تُعنى بالإرهاب عن تعريفه، وهذا التساؤل المثير للجدل يدفعنا للبحث عن أسباب هذه المعضلة، ومدى اعتبار النشاط أو الحادثة أو الجماعة إرهابية من عدمها.
سُئل أحد القضاة عن تعريف المواد الإباحية فأجاب: "قد لا أملك تعريفاً لها، ولكن يمكنني تمييزها عن غيرها عند مشاهدتها". وقس على ذلك الإرهاب ومدى الإشكال الواقع بين المؤسسات الدولية والإقليمية في تعريفه، في أحد الأبحاث تم توزيع 109 استبيانات على المختصين والعاملين في مجال مكافحة الإرهاب؛ بهدف الوصول إلى تعريف موحد للإرهاب وأثمرت الإجابات عن 22 تعريفاً مختلفاً للإرهاب، يرجع هذا الاختلاف إلى عدة أسباب نستعرض أهمها: -
أولاً: - الدوافع السياسية ولبس هذه الدوافع عدداً من الأقنعة: فبعض الحكومات ترى من الجماعات والفصائل المسلحة حليفاً لها وأداةً تستخدمها لتحقيق أجندتها، فلا تصمها بوصمة الإرهاب وقد يتعدى ذلك إلى التسليح والتمويل، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بدعم المجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي في ثمانينيات القرن الماضي. ومثالٌ حيٌّ على ذلك هو محاولة النظام القطري إعطاء الكلمات دلالات مزدوجة بنفي تهمة دعم الإرهاب عنه، كدعم تنظيم جماعة الإخوان المسلمين. استخدام الإرهاب كورقة ضغط أو ردع: من منا لا ينسى التهديدات التي رددها أنصار المخلوع محمد مرسي في اعتصاماتهم بميدان رابعة العدوية.. "إذا سقطت شرعية مُرسي.. حيكون فيه دماء.. حيكون فيه سيارات مُفخخة وتفجير بالريموت كونترول". وغير ذلك من الأنظمة التي وصلت إلى الحكم من خلال الصراع المسلح، فلا يمكنها إدانة الأسلوب الذي سلكته في سبيل وصولها إلى سدة الحكم.
ثانياً: - التعاطف مع القضية: قد لا يرى بعض الساسة من الحكمة تصنيف جماعة مسلحة على أنها إرهابية نظير تعاطف شريحة الناخبين مع قضيتهم، أو بحثاً عن الدعم الشعبوي خلف ستار الشعارات النبيلة الزائفة، كما هو الحال مع بعض الساسة الأمريكيين ذوي الأصول الأيرلندية مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، حيث فضلّوا تجاهل النقاش حول تصنيفه كمنظمة إرهابية.
ثالثاً: - الأسباب البيروقراطية: فمصطلح الإرهاب حمّال وجوه، فنظرة رجل القانون له تختلف عن نظرة الدبلوماسي وتختلف هي الأخرى عن نظرة رجل الأمن إلى غير ذلك من الأشخاص المعنيين بهذه الظاهرة. فكلٌ منهم ينظر لها بعدسة مضبوطة المقاس في مجال التخصص، فرجل القانون يبحث عن إدانة المتهم أو براءته في أروقة المحاكم، ويرى الدبلوماسي تأثير هذه الظاهرة في العلاقة السياسية بين الدول، ويبحث رجل الأمن عن الوسيلة المُثلى لحماية أرواح وممتلكات الناس من هذه الظاهرة، ولك أن تتخيل تنوع المُدخلات والمُخرجات إذا ما أدخلنا علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والدين في هذه المعادلة.
رابعاً: - النطاق التاريخي: لنتجاوز ظهور جماعة الحشاشين في القرن الحادي عشر وما أحدثته من عمليات اغتيالات لشخصيات سياسية كان لها أثرها في التاريخ، وبالتحديد في التاريخ الإسلامي، عرف التاريخ الحديث ظهور الإرهاب على السطح إبان الثورة الفرنسية، لم يكن لمصطلح الإرهاب ذات الدلالة السلبية بل كان يُعتبَر المخاض لحريات الشعوب، وكان يستهدف رجال الحكومة الفرنسية دون اعتداء على غيرهم من المدنيين، وانقلب هذا المفهوم ليصبح سلبياً ودموياً عندما أعدّ ماكسمليان روبسبير- أحد قادة الثورة الفرنسية - قائمة اغتيالات لأعداء الثورة شملت خصومه السياسيين من قادة الثورة نفسها ليبدأ معه عهد الإرهاب.
وبذلك أصبح مصطلح الإرهاب يتأرجح في منطقة رمادية بين الثورة والتغيير الجذري لأنظمة الحكم واسترداد الحريات، وبين العنف وزهق أرواح الأبرياء وترويع الآمنين، لندخل بعدها عقوداً من مرحلة ظهور حركات الفوضى في أوروبا والولايات المتحدة التي تهدف لإسقاط كافة أنظمة الحكم والسلطة حتى بدايات القرن العشرين، إذ طفا مصطلح الإرهاب على السطح مرةً أُخرى. ولكن بارتباط آخر ليس كسابقه الداعي لتغيير وإسقاط أنظمة الحكم وإنما ارتبط بالجماعات الأثنية والعرقية كمنظمة الإرغون الصهيونية التي ارتكبت مجازر في أرض فلسطين العربية قُبيل إعلان قيام "إسرائيل".
وإبان اندلاع الحرب العالمية الأولى التصق مفهوم الإرهاب بالشعوب حتى ثلاثينيات القرن الماضي، ليعود ويلتصق بالدولة مع ظهور النازية والثورة البلشفية واستخدامها أشدّ أساليب القسوة والعنف ضد الشعوب، ولا يزال هذا المصطلح متأرجحاً ليرتبط مرة أخرى بالشعوب في خمسينيات القرن الماضي في سعيها للتخلص من الاستعمار الأجنبي. وفي السبعينيات وفي أوج الحرب الباردة ارتبط الإرهاب بنوعين من الجماعات الأولى: الإثنية الانفصالية التي تسعى لإعادة رسم خريطة العالم بما يضمن قيام دولتها المبنية على العرق أو اللغة أو الدين، كمنظمة إيتا وقيام الثورة الخمينية وظهور مصطلح "تصدير الثورة" وتبعاته من قيام أذرع إرهابية لإيران في الشرق الأوسط.
والثانية: الأحزاب الماركسية اليسارية المتطرفة كالقوات المسلحة الثورية الكولومبية المعروفة ب FARC التي كان وقودها المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي الذي انحل، ولا تزال بعض الجماعات التي تتبنى آيدولوجيته نشطة حتى يومنا هذا.
وهذه الأسباب وغيرها أوجدت سياقات ودلالات مختلفة لمفهوم الإرهاب في أوساط العلماء والباحثين المتخصصين في شؤون الإرهاب فضلاً عن العامة، لذا وجب عليك عزيزي القارئ التأكد أثناء نقاشك مع غيرك عن الإرهاب أنكما متفقان على الحد الأدنى من الدلالة على هذا المفهوم.
الخبر السار أن هذه المعضلة لم تثن العلماء عن وضع معايير وعناصر تختزل هذا التشتت للوصول إلى تعريف مُحكم للإرهاب سأستعرضها في مقال آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة